رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

صراع الأفاعى

بوابة الوفد الإلكترونية

 

الملك يحارب «حزب الأمة» بأحزاب «الاتحاد» و«الشعب» و«السعديين»

الوفديون كانوا خصماً للاحتلال وسلطة الاستبداد الملكية

«مصر الفتاة» و«الإخوان» رفضا الأسس الفكرية للنظام الديمقراطى

انتهت ثورة سنة 1919 بتحقيق مكاسب، منها تصريح فبراير سنة 1922، ثم معاهدة 1936، التى كان من أهم نتائجها إلغاء الامتيازات الأجنبية.

والحقيقة أن الفترة بين الحربين العالميتين اتسمت بسمتين على جانب كبير من الأهمية فقد بدأت القيادة الوطنية لثورة 1919 موحدة لفترة قصيرة، ثم سرعان ما حدث فيها الانقسام، كان هذا الانقسام يتمثل فى سلسلة من الانشقاقات التى خرجت من الوفد، وكانت فى مجموعها خلافاً حول معالجة القضية الوطنية والعلاقة مع الاحتلال.

ففى بادئ الأمر خرجت مجموعة برئاسة إسماعيل فى أواخر عام 1919، وكانت هذه المجموعة أكثر الأجنحة رجعية وأكثرها تمثيلا للرأسمالية المصرية، ثم حدث الانسلاخ الثانى سنة 1921 من جانب مجموعة من الملاك الزراعيين الذين ألفوا فى سنة 1922 حزب الأحرار الدستوريين، وهو الحزب الذى كانت بريطانيا تعتقد أنه يمثل التوازن بين السراى من ناحية والوفد من ناحية أخرى.

هو الحزب الذى لعب الدور الأكبر فى بناء دستور سنة 1923 - وهو دستور برغم المكاسب الديمقراطية التى احتواها إلا أنه فى النهاية يخدم البرجوازية المصرية على الوجه الأفضل - الذى تحول إلى إطار لإقامة شرعية برجوازية فى مصر ترتكز على رؤية هذه الطبقة للديمقراطية، حيث يرون الانتخابات والتمثيل النيابى وظيفة وليس حقا، ولذلك كانوا يرون حق الانتخاب والتمثيل النيابى فى أولئك الذين تؤهلهم مصالحهم الاقتصادية.

كذلك تم الانقسام الثالث للوفد فى سنة 1932 وهى مجموعة مثلت فى وقت واحد الاتجاه إلى الرأسمالية المتجهة إلى الاحتكار من ناحية والنزوع إلى القبلية من ناحية أخرى، وفى سنة 1937 خرجت الجماعة التى أطلقت على نفسها حزب السعديين.

ولكن وفى نظرى فإن خروج هذه الجماعات إنما كان فى الحقيقة تطهيراً للقيادة الوطنية أكثر منه انقساماً فى صفوفها، فخروجها جعل القوة الاجتماعية المسيطرة على الوفد تنتمى إلى الطبقة المتوسطة، الأمر الذى ساعد بالتالى على تقارب قيادة الوفد من قواعده الجماهيرية، والاتجاهات الوطنية والتقدمية فى الحركة السياسية.

فقد اضطر الوفد فى الفترة ما بين الحربين العالميتين إلى أن يخوض معركة الدستور ضد القوى المنشقة عليه، والتى تحولت إلى أداة فى يد السراى أو الاحتلال، مما استنفد طاقة الوفد الوطنية ومواجهته للإنجليز بمطلب الاستقلال كما كان فى ثورة 1919، ولقد كان منطقيا أن تؤدى هذه الانسلاخات إلى تعاظم قوة المعسكر المعادى للحركة الوطنية، إلا أن الوفد باتباعه الأساليب السلمية فى مواجهة الاحتلال أو السراى، لم يستطع أن يحقق مكسبا واحدا ضد السراى فى معركته من أجل الدستور، ذلك لأن السراى ألقت فى ساحة الصراع ضده بأحزاب الاتحاد والشعب والسعديين!! وتأتى أحداث سنة 1936، وتندفع جموع الشباب المصرى مطالبة الأحزاب بتوحيد الكلمة والموقف فى وجه الاحتلال فتتكون الجبهة الوطنية الممثلة للأحزاب برئاسة الوفد وتبدأ التفاوض مع الإنجليز، وتنتهى بعقد الوفد لمعاهدة 1936.

 

الوفد

عقدت معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا، أبرمتها جبهة مؤلفة من الأحزاب المصرية كلها باستثناء الحزب الوطنى وكان من الطبيعى بعد إبرام هذه المعاهدة أن تبدأ كافة القوى السياسية فى إعادة صياغة مراكزها فى ضوء موقفها السياسى بالنسبة لمستقبل البلاد على أساس الاهتمام بتطوير الأوضاع الداخلية سواء من ناحية التنظيم السياسى للدولة أو من ناحية التطوير الاقتصادى والاجتماعى.

وفجأة توفى الملك فؤاد، وخلفه ابنه فاروق تحت وصاية مجلس للوصاية، وتولى فاروق سلطاته الدستورية فى 29/7/1937، وكان غياب فؤاد واعتلاء فاروق العرش بمثابة تجديد للسراى كمؤسسة سياسية.

وأريد استغلال هذا التغيير من جانب كل الأطراف لتقوية النفوذ الذاتى باسم الملك أو على حسابه، وواكب ذلك أن تنظيمين شعبيين كانا قد شبا من بداية الثلاثينيات، وغدت لكل منهما شعبية لا بأس بها فى مواجهة الوفد، وهما جماعة الإخوان المسلمين وحزب مصر الفتاة!!

ويحكى المستشار طارق البشرى فى كتابه «المسلمون والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية» أن إيضاح الأمر يقتضى تذكر مقولة أحمد لطفى السيد فى بدايات القرن العشرين من وجود السلطتين الشرعية -الخديو- والفعلية -الاحتلال البريطانى- ومن وجوب سعى الأمة لأن تكون شريكا ثالثا مع هذا الثنائى الحاكم، هذه المقولة تحققت بعد ثورة 1919، مع فارق واحد وهو أن الأمة التى تصاعد نفوذها بالثورة إلى أعتاب السلطة السياسية، لم تكن هى أعيان البلاد، ولكنها كانت الحركة الوطنية الديمقراطية بما تمثله من قوة سياسية واجتماعية.

وصارت بذلك حكومة مصر مجالا للصراع والتحالف بين قوى سياسية ثلاث، الملك والاحتلال والوفد!!

كان الوفد كممثل للحركة الوطنية الديمقراطية خصما لكل من سلطة الاحتلال، وسلطة الاستبداد الملكية ولكن قوة الوفد الذاتية لم تكن تسمح له بالتحرك الناجز ضد خصميه معا، فقامت حركة الوفد السياسية على أساس الاستفادة من الصراعات التى تنشب بين خصميه وشريكيه!!

تحالف مع الملك ضد الإنجليز، وحزب الأحرار الدستوريين فى سنة 1923، فشكل أول وزارة دستورية فى السنة التالية، وخاض معركته الوطنية والديمقراطية ضد الخصمين فتحالفا عليه فى نهايات العام، وتحالف مع الإنجليز من خلال الأحرار الدستوريين فى سنة 1926، فشارك فى الحكومة الائتلافية التى ركزت اهتمامها فى تضييق سلطات الملك، ثم جاءت وفاة سعد زغلول وتشدد الوفد فى مفاوضاته مع الإنجليز ليعود اتفاق خصميه عليه فسقط فى سنة 1928.

وتكرر الوضع عندما تولى الحكم فى يناير 1930، وعندما سقط فى يونية بعد فشل مفاوضاته مع الإنجليز، كان الإنجليز يساندون الملك ضد الوفد، فإن سقط الوفد نمت نوازع الملك أن يستبد بالحكم وحده مما يهدد استقرار الأوضاع، فيعودون إلى السماح للوفد تحت ضغط الفوران الشعبى أن يتولى الحكم، وهكذا كان ميدان الصراع مجالا لأطراف ثلاثة، وكلما تجمع طرفان منهم أمكن ضرب الثالث!!

والذى يهمنا هو إيضاح نظرة الوفد إلى معاهدة 1936، فى ضوء خريطة الصراعات السياسية حول الحكم فى مصر، جرب الوفد التحالف مع الملك ضد الإنجليز فى سنة 1923، وجرب مهادنة الإنجليز ضد الملك سنة 1926، وجرب التلويح بالمعاهدة فى يناير 1930، كان الوفد حزبا للكفاح السلمى المشروع.

وقد مارس الوفد فى ظل دستور 1923، الكفاح الدستورى بحسبانه الوسيلة المتاحة لمحاصرة الاستبداد الملكى، ولمفاوضة الإنجليز تحقيقا لهدفه الوطنى، تبلور كفاحه السلمى المشروع فى استخدام أسلحته الدستورية للوصول إلى الحكم وتأمين استمراره فيه، باعتبار أن هيمنته على جهاز الدولة هى وسيلته الفعالة لتحقيق هدفيه الديمقراطى والوطنى، ولكن تجربته اثنتى عشرة سنة رجحت لديه أن تأمين سلطات الملك لا ينفى الديمقراطية قط، ولكنه يستخدم فى اللحظة الحاسمة لصالح الاحتلال عند تصاعد الصراع بين الوفد وبينه!!

لذلك كان من أهم أهداف الوفد من معاهدة 1936 أن تكفل ولو هدوءا نسبيا ومؤقتا فى جبهة صراعه مع الإنجليز، ليحشد أهم أسلحته فى جبهة صراعه مع الملك، ضمانا لهيمنته على جهاز الدولة وتأمينا لاستقراره فيه.

هذا الملك الوفدى الذى رمى بمعاهدة 1936، إلى التحالف مع الإنجليز لضمان حيادهم مع معركة الوفد ضد الملك، لم يكن جديدا على الحركة الوطنية المصرية، التى حاولت من قبل مرات عديدة تحييد أحد خصميها مع معركتها مع الخصم الآخر، حاولتها مع الإنجليز خاصة سنة 1926 بتحالفها مع الأحرار الدستوريين وعدم مطابقتها بالمطالب الوطنية، لتتفرغ مؤقتا لصراعها مع الملك.

والبادى أن الوفد فى تلك الفترة بلور نظرة سياسية توضح معنى الاحتلال لديه، وهى أن مجرد وجود القوات الأجنبية لا يعتبر احتلالا بالمعنى الذى يتنافى مع الاستقلال، لأن الاحتلال المنافى للاستقلال هو الاحتلال الذى يمكن المحتل من التدخل فى شئون البلاد، ويحرك سياستها أما وجود القوات الأجنبية المعزول عن هذا التأثير، فلا يتنافى مع الاستقلال، ولا يسمى احتلالا، وبهذا المفهوم يتضح أن مصطفى النحاس زعيم الوفد، كان يتطلع إلى أوضاع الحكم المصرى وهو يوقع المعاهدة مع الإنجليز، وكان بهذا التوقيع يتهيأ لمواجهة الاحتلال الملكى لجهاز الدولة المصرية، يريد أن يحاصر وجوده فى قاعدة معزولة عن التأثير فى شئون البلاد وتحريك سياستها.

والأدهى من ذلك الموقف الذى اتخذته الوزارة الوفدية فى سنة 1936، عندما حاصرت منصب رئيس الديوان الملكى، وعندما أعلن مصطفى النحاس رئيس الوزارة الوفدية فى خطاب العرش فور تشكيل وزارته عن عزمه إنشاء وزارة للقصر، بمعنى أن تناط الشئون السياسية للقصر بواحد من أعضاء الوزارة البرلمانية، بما يكفله هذا الوضع من هيمنة للوزارة على شئون القصر، وجذب لشئون القصر السياسية إلى ساحة المسئولية البرلمانية، وفقدان الملك استقلاله التنظيمى بين مؤسسات الدولة.

أضف إلى ذلك أنه عندما حاول سعد زغلول سنة 1924 إقرار مبدأ مشاركة الوزارة للملك فى تعيين رئيس الديوان الملكى، فقد تصاعد الوفد أيضاً بهذه المسألة سنة 1936، عندما طرح فكرة وزير القصر الذى يعتبر عضوا بالوزارة البرلمانية مسئولا عن شئون القصر أمام البرلمان.

هذا التصعيد يوضح واحدا من أهم الآثار التى تغياها الوفد من تحالفه مع الإنجليز، وكان من الطبيعى أن يثير هذا الملك الوفدى أخوف مخاوف السراى وأحزاب الأقلية وجميع القوى الموالية لهم، وأن وفدا له من التأثير الشعبى ما لا قبل لهؤلاء به، هذا الوفد خليق بأن يستشعر خصومة منه أقصى درجات الخشية والهلع بعد أن وقع معاهدة قد تؤدى إلى تحييد أخطر خصومه وأقوى نصير لهم.

 

الشهور القمرية

وعزز هذا الوضع أن خلف فؤاد فى الملك حدث لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، واحتاجت ولايته العرش إلى جهد المفتين من رجال القانون، الذى قد حدا القرائح فى التفسير والتأويل، ليضيفوا إلى عمره شهورا تصل به إلى سن الرشد، وواتتهم الشريعة الإسلامية بالحجة فى حساب العمر بالسنين القمرية لذلك وجب على خصوم الوفد أن يتجمعوا ليشنوا عليه ما ساغ وما لا يسوغ من الهجمات، وليوجهوا إليه ما يصيب وما يطيش من

الطعنات، واختلف طرفا الصراع فى كل شىء إلا فى أن معركتهم هذه معركة فاصلة.

كان الوفد يرفع شعاره الأثير عن الديمقراطية وسيادة القانون، فرفعت السراى شعارها الأثير كذلك عن الحكم الدينى والخلافة الإسلامية، حاولت السراى أن تقسم حزب الوفد، وساهمت فى إذكاء الخلاف بين أحمد ماهر والنقراشى من جانب وبين مصطفى النحاس ومكرم عبيد من الجانب الآخر، فلما نجح رئيس الوفد أن يجذب إليه بنيان الحزب برمته، ولما فشل ماهر والنقراشى أن يخرجا من الحزب بانقسام كبير، وفسدت المحاولة لم يبق أمام السراى وحلفائها إلا أن يستخدموا سلاح الدين ضد الوفد، دعما لسلطة الملك السياسية بوصفه ولى الأمر، وضربا للوفد بدعوى أن مكرم عبيد سكرتيره العام يقوده فى سياسة قبطية تفضى إلى سيطرة الأقلية القبطية فى البلاد على الأغلبية المسلمة!!

اقترح الأمير محمد على، ولى العهد ورئيس مجلس الوصاية أن يجرى تتويج فاروق ملكا فى حفل دينى يقام فى القلعة، مقر حكم محمد على باشا الكبير، وفى الحفل يقلد شيخ الأزهر الملك المتوج سيف جده الأكبر محمد على، ثم يؤم الملك المصلين فى الأزهر، تعبيرا عن مكانته الدينية كولى للأمر، وأمام المسلمين يجمع بين السلطتين الزمنية والدينية.

وآزر كبار رجال الأزهر برئاسة الشيخ مصطفى المراغى هذا الاقتراح، وروجت له القوى السياسية الموالية للملك، والمعاندة للوفد.

ولكن حكومة الود قاومت الفكرة فى حزم، واستثارت هذه الدعوة لدى الوفد خوفه البالغ على مثله الديمقراطية، وحذره الشديد من أن تسبغ بردة الدين على خصمه الملك ما يقوى به على حسابه، لذلك وقف مصطفى النحاس ضد الحفلة الدينية عامة، وضد فكرة أن يصلى الملك بالأزهر غداة تتويجه، لما تثير صلاته بالأزهر فى هذه المناسبة من دلالات دينية تنسبغ على ولايته الزمنية، وصرح النحاس بأن مثل هذه الاقتراحات تتضمن إقحاما للدين فيما ليس من شئونه، وإيجاد سلطة دينية خاصة بجانب السلطة المدنية!!

فى هذه الظروف سارت خطة المعاداة للوفد فى خطين، الطعن على الوفد بالقبطية، وإنعاش الملك ورهطه بدعاوى حماية الإسلام، لم يكن الوفد حزب الحركة الوطنية فحسب، بل كان حزب الجامعة الوطنية المصرية، فإذا كانت وظيفته التاريخية الأولى هدأت بإبرام المعاهدة، فقد بقيت له الوظيفة الثانية. وهذه بالضبط ما أريد القضاء عليها بتهمة الطائفية، وإذا كان بهيكله وتشكيله حزبا جامعا للمصريين مسلمين وأقباطا، فقد أريد بتلك التهمة عزل المسلمين عنه، وأن المصرية شعار يتخفى به الأقباط ويثيرونه ضد المسلمين!

وبدا لمعارضى الوفد أنه لا طريق لهدمه غير هذا الطريق، فعباس العقاد الذى كان واحدا من قلاع الاستنارة الفكرية على عهد انتمائه للوفد، هذا العقاد أمسى فى معسكر الملك، فلم يكتف بتجنيد المراسم الدينية لتتويج الملك، بل أرجع اعتراض الوفد عليها على أثر القبط فيه.

 

سلاح الدين!

وفى سنة 1937 تصاعدت هذه الأزمة لتعيد إلى الأذهان حملة الأحرار الدستوريين، ضد الوفد سنة 1929، ولكن بصورة أعنف، وكان لابد للتهمة من ماديات تقوم عليها، وهذا ما تكفلت باستنباته صحيفتا البلاغ والأهرام، وتمثلت مادة التهمة فى تعيينات الموظفين وترقياتهم، فتنشر الأهرام مثلا عن ترقيات بوزارة الصحة، وتورد بغير تعليق أسماء ستة أقباط، وتتلقف البلاغ الخبر لتعيد نشره إفساحا لذيوعه وتوليدا للدلالات السياسية منه، حول سيطرة الأقباط على الوفد حزبا وحكومة واضطهادهم المسلمين.

ولجأت السراى إلى سلاح الدين تطعن به صدر الوفد، وكان الأزهر وشيخه المراغى هما فرقة الصدام، وتحكى صحيفة الإخوان المسلمون أن أحزاب المعارضة ظلت تكافح وزارة الوفد لزحزحتها عن الحكم فلم تستطع فلما ظهر صاحب الفضيلة شيخ الأزهر فى الميدان ومن حوله أبناؤه الطلبة وقد أشهروا أسلحة الدين عندئذ قوى ساعد المعارضة كثيرا، ومن ثم كان ذلك من عوامل الانقلاب!!

وجاء شهر رمضان فى أكتوبر سنة 1937، فنظم الشيخ المراغى مع السراى سلسلة متتابعة من الدروس الخصوصية فى المساجد الكبيرة، إذ يغشاها الملك تباعا ويستمع إلى أحاديث للمراغى تتضمن التعريض الضمنى الخفى بالوفد وحكومته، مع الدعوة الصريحة لفاروق حاميا للإسلام، وجاء ذلك مع بدء الصراع المفتوح ضد حكومة الوفد، وبدء التحريك النشيط ضدها، بتعيين على ماهر رئيسا للديوان الملكى على غير رغبة الحكومة.

وأشاع شيخ الأزهر أن حكومة الوفد لا ترضى عما يلقى من دروس دينية، وأن مكرم عبيد خاصة يزعجه هذا الأمر، وأنه اتصل بالسفير البريطانى يحثه على التدخل لمنع تلك الدروس، وتداولت الصحف الملكية الخبر لا تخفى دلالته المرجوة، من أن مكرم القبطى كاره للإسلام ويجرجر الوفد معه ضد دين الغالبية، الأمر الذى لم يكتف مكرم بنفيه بل أبلغ بشأنه النيابة العامة طالبا التحقيق فيه.

ووقف الأحرار الدستوريون والسعديون ضد الوفد كانوا جميعا شركاء فى حلف يعتبر الدين أهم معادلة فى تحطيم الوفد، وساهم أيضاً مصر الفتاة فى هذه الحملة الدينية بشقيها، إدانة الوفد بتهمة القبطية ودعم حكم السراى بقوائم الإسلام، ووقف مصر الفتاة مع الملك ضد الوفد!!

وخلاصة الأمر: لا يخطئ القائل بأن من استخدم سلاح الدين كانوا جملة الأحزاب والقوى السياسية ومن وقف ضد استخدامه كان الوفد وحيدا، ولهذا القول مفادات ثلاثة: أولها: أن ما جمع هذه الزمر كان موقف المعاداة للديمقراطية، سوى دل عليه الفكر الصريح أو المسلك الضمنى، وموقف الملك معروف، وكذلك الأحرار فيما جربوا فيه منذ انشقاقهم عن الوفد سنة 1922.

ومصر الفتاة والإخوان كانا يرفضان النظام الديمقراطى رفضا واضحا من الناحية الفكرية، والسعديون تذبذبوا وجاء ذلك انعكاسا لوقفتهم المتذبذبة وقتها إزاء المسألة الديمقراطية.

والمفاد الثانى: أن الكثرة لا تحسب بعدد التنظيمات والقوى السياسية، إنما ينبغى قياسها بحجم التأييد الشعبى، فالحجم هو ما عليه المعدل لا العدد، وأن خبرة السنين السابقة تكشف أن الوفد - هذا التنظيم الواحد - كان كعصا موسى تلقف عصيان السحرة، فهو واحد لا يتساوى مع آحاد خصومه، وحتى عندما انصدع من شعبيته عقب معاهدة 1936، ظل الباقى يرجح كفتهم بغير منازع، ولم يعدل به الانصداع من الغالبية الكاسحة، إلا إلى الغالبية الغالبة.

والمفاد الأخير: أن كل من وقف ضد الوفد، كان الدين لديه سلاحا فحسب، محض وسيلة لأهداف آنية، جهيرة المسلك فى إعلاء شأن الجامعة الإسلامية كجامع سياسى وحيد، وكانت ذات شعبية تمثل فريقاً غير منكور الحكم ولا الأثر.

لذلك غدت الإخوان مركز التحدى الأساسى للوفد وما يمثله وقطب الصراع معه، واختتمت حقبة الثلاثينيات وأتت الأربعينيات، ومصر بين هذين الطرفين، الوفد يما يمثله من جامعة وطنية والإخوان بما تمثله من جامعة دينية.. وإلى لقاء!