رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الزعيم سعد زغلول فى حوار تاريخى: لم أطلب الزعامة وإنما كانت غايتى أن أصبح خادماً للأمة

 لقاء سعد زغلول مع
لقاء سعد زغلول مع الزميل مصطفى عبيد

ثورة 1919 أثبتت أن المصريين عظماء بالتكاتف وأقوياء بالتلاحم ورفض الضيم

الوحدة الوطنية أساس مواجهة أى مخاطر أو تحديات قادمة

 

بخطى اللهفة والفضول المعرفى خطوت نحو بيت الأمة. ذلك البناء الشامح بوسط المدينة، ساكن العقل، لا ألتفت لنداءات الباعة وضجيج السيارات العابرة. أدق الباب حسب الموعد الخيالى لينفتح أمام ناظرى بهو واسع مُضيء بذكريات أحداث عظام، وشخوص لافتين مروا من هنا. سألت نفسى كيف احتمل البنيان ذلك الحماس الجياش الذى هز عرش أكبر إمبراطوريات التاريخ صلفا وتجبرا؟

جلست متأملا فى أسقف القصر، يحمل رأسى الصغير خبزا تأكل الطير منه. أسئلة وأفكار مجنونة زارتنى مرارا كطلقات رصاص لتترك كل واحدة آثارها. ماذا لو لم يكن هناك سعد زغلول؟ ماذا لو لم يولد؟ ماذا لو لم يفكر، ويتأمل، ويتأخذ القرار؟ ماذا لو لم يتحمل مخاطرة التقدم ويتحدى السلطة المتجبرة؟ ماذا لو لم يهب إلى المعتمد البريطانى مطالبا لاستقلال مصر؟

هل ارتديت الطربوش؟ ربما. هل تأنقت بأجمل الثياب وتعطرت بأفخر العطور؟ هل رتبت نفسى وجهزت عقلى ودربت لساني؟ هل التقيته بالفعل وتكلمت إليه وسألت وأجاب؟ تلك تساؤلات لا تحتاج إجابة. فاللقاء مُثبت بالصورة، والكلام موثق بالنشر وأسلوب الإجابات ثابت بالتطابق مع الخطب الشهيرة للرجل.

طويلا لمحته. هيئته تُضفى ظلالا من الهيبة. تقدم نحوى مُصافحا ليخرجنى من تساؤلاتى الافتراضية ويُرحب فى مودة ظاهرة بزائر من المستقبل. عينان صاحيتان. ووجه جامد بملامح أصيلة لفلاح مصرى عتيد. شاربه يعكس صلف الارتكان للأمة، بينما تؤكد نظراته جلد القوة المستندة على الحق. تفحصتنى عيناه بإمعان، قبل أن يقول: أهلا وسهلا. بدا باشا وهو يسألنى : كيف هو الحال لديكم؟ ابتسمت وقلت فى ود: بخير دولة الباشا. فسارع مقاطعا: أنا سعد زغلول ابن الفلاحين. لا باشا ولا غيره. ثم استفسر قائلا: كيف جئت؟ فأجبته: سألت الله ذلك. ثُم قلت: أيها الزعيم. لقد جئت سائلا مستفسرًا فشرفنى بكلماتك بعد أن قبلت لقائى. فهز رأسه بالإيجاب.

سألته: كيف ترى المصريين بعد عقود من رحيلك؟ وإلى أى متى تغيرت البلاد والناس والقيم؟

سكن قليلا ليستدعى واقع الناس وقال: المصريون عظماء أصلاء لهم فى البأس مواقف، يعرفون الحق ويلاحقونه، ومهما تغيرت الظروف فهم أشداء بالتكاتف، متقاربون بالتسامح، مقاومون للضيم أينما كان. وقيمهم لم تتغير منذ عهد الأقدمين، فهم شعب ودود، مبدع، خلاق، يمتص ثقافات الغير لينتج ثقافته، ويرفض أفكار التمييز ويدافع عن مبدأ المواطنة، وإن بدت فى بعض الأحيان حوادث ضد ذلك، فإنه ينكره وينقده ويصححها.

سألته: هل كنت تستهدف من تضحياتك وأعمالك أن تصبح زعيما؟

هز رأسه نافيا وقال: إن شئت أن تعرف حقيقتى فاعلم أننى رجل قد وضعت تحت تصرف أمتى عقلى واختبارى وبيانى، فإن استفادت الأمة منه فذاك يجعلنى سعيدًا، وإلا فهو واجب أخذته على نفسى، أقوم به لأريح ضميرى، أما الذى يسرنى ويشرفنى فهو أن أكون خادمًا للمصريين لا زعيمًا.

سؤال: بعد مئة عام من ثورة الشعب المصرى فى سنة 1919. كيف ترى ذلك الحدث العظيم؟

أجاب: لا أتصور أن تفى الأوصاف والنقولات ما حدث فى مارس 1919، وأعتقد أن الأمر يتجاوز كل كتابة أو تأريخ. لقد عشت الوقائع بذاتها، وعايشت ميلاد الشخصية الوطنية الصلبة التى تستصغر الموت أمام الكرامة والحرية. أنت لا تعرف ما معنى أن يتحرك الناس فى كل شبر من البلاد رافضين الضيم، منادين بالتحرر. أنت لا يمكن أن تتخيل كيف انتقل خبر القبض علىَ وزميليَ بدون وسائل تكنولوجيا حديثة مثل التى تعرفونها من الشمال للجنوب، ومن الحضر إلى الريف، وكيف استشاط الناس طلبا للحرية. كيف خرج الطلبة، وأضرب الموظفون، واعتصم العمال، وتظاهر الشيوخ ممسكين بأياديهم القساوسة فى لحظات عفوية أثبتت قوة وصلابة وعظمة المصريين. لقد رسمت ثورة 1919 الظلال المبكرة للشخصية المصرية الوطنية، وهى شخصية تعرف أن الحق أعلى من القوة، وأن الشعب والأمة أعلى من الحكومة. فى تلك الثورة ولدت فكرة التحرر، وهو تحرر شامل للفكر، والإبداع، والثقافة، والسياسة، والمرأة. لقد فوجئت نفسى بما جرى، ودونت ذلك فى مذكراتى.

سؤال: وبما فكرت وأنت ذاهب فى نوفمبر 1918 لتقابل السير وينجت المعتمد البريطانى. هل كنت تأمل أن يجيب طلبك؟

أجاب: بالطبع لا. كنت أعرف أن المعتمد البريطانى عتيد وصلف، وكنت على يقين أنه لن يقبل أن نسافر لنعرض استقلال مصر، لكن كان لا بد من حجر فى المياه الراكدة لإيقاظ الهمم وإعلام الناس أن هناك من يرفضون استمرار الاحتلال بدعوى الحماية. لقد قابلنا صلفه بصلف موازٍ وأجبنا على اعتراضاته بشكل منطقى وعظيم عندما قررنا جمع توكيلات من المصريين فى كل الأنحاء.

سؤال: هل تعلم أن وزارة الخارجية البريطانية سجلت وقتها فى وثيقة لها محفوظة برقم 16 لسنة 1918 القول بأنه ليس بين الوطنيين المصريين الثلاثة من يستطيع أن يزعم أنه ممثل للشعب المصرى؟

أجاب باسما: نعم لقد قالوا لنا إنكم لا حق لكم للحديث باسم الناس، فقام الناس فى كل مكان بمصر بإنابتنا للمطالبة بالاستقلال، فكانت أكبر ضربة للديمقراطية البريطانية المزعومة. وأتصور أن المصريين سبقوا شعوب العالم فى الاحتكام الأمثل للأمة، رغم أن معظم الناس لم يطلعوا على تجارب العالم فى الديمقراطية من خلال ما تسمونه الإنترنت أو يعاينوا أحداثا مشابهة.

سؤال: وهل حقا كانت الثورة مسلحة أم سلمية وما هو رأيك فى ذلك؟

أجاب: مذكراتى ومذكرات المعاصرين تقول كل شيء. لا ثورة ضد محتل دون قوة تحميها. لذلك كان الجهاز السرى للثورة ضرورة ملحة. لقد كنا نواجه قوة محتلة وكانت هناك ضرورة للعنف فى بعض الأحيان، وهو ما لا يصح ضد مصرى مخالف.

سألته: وهل مشاركة النساء فى الثورات ضرورية؟

هز رأسه باهتمام وقال: لا ثورة بدون نساء. ولا حرية بعيدا عن المرأة.

سألته : إن هناك أجزاء غامضة فى سيرتك منها ما يخص مشاركتك فى جمعية للانتقام من الاحتلال البريطانى. هل كانت الواقعة صحيحة؟

أجاب: بالطبع. لقد كان تفكيرى فى البداية يرى ضرورة اغتيال الإنجليز وكنت عضوا فى

جمعية باسم الانتقام، وتعرضت للمحاكمة عندما وجدوا على غلاف أحد الكتب فى بيتى بيت شعر يقول «ولى فى ضمير الدهر سرٌ ظاهرٌ» وسألنى القاضى البلجيكى الذى حاكمنى واسمه فلمنكس عن ذلك، لكننى كنت على يقين بأنهم يفتقدون الدليل فأبيت الاعتراف فأفرجوا عنى. وغيرت من أفكارى بعد ذلك وغيرت الأيام من أساليب النضال.

سؤال: ولماذا لم تنضم إلى الحزب الوطنى فى زمن مصطفى كامل؟

أجاب: إن الحزب الوطنى كان يدعو إلى مبادئ خيالية مثل "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء" مما يعنى بقاء الاحتلال إلى الابد، ومقاطعة وظائف الدولة العامة مما يعنى هيمنة الانجليز عليها. ثم يقول «ولقد قبلت الحياة الرسمية لأمارس من خلالها ما استطيع من مقاومة ومن خدمات للوطن».

سألته: وكيف ترى محاولة اغتيالك بعد كل ما قدمت للوطن؟

قال: أمر طبيعى. كان العمل مدبرا، وفى الحقيقة فقد مر على أصعب من حادث اطلاق الرصاص. لقد سُجنت مبكرا فى بداية حياتى السياسية، ثم سجنت بعدها وأنا فى الستينيات من العمر ونفيت مرتين، وتعرضت لمؤامرات الاحتلال، والخصوم والساسة لكنى لم أتراجع ولم أنحرف عما قيضه الله لى.

سؤال: وماذا يتعلم الناس من تلك الأحداث؟

أجاب: يتعلمون أن القوة مهما كانت عاتية يمكن مقاومتها، وأن حرية الشعوب هى أعظم الغايات، وأن الوحدة الوطنية هى أساس مواجهة أى أخطار أو تحديات. عندما نتكاتف نبنى، ونعمر، ونطور، ونتقدم. والوحدة الوطنية هنا ليست وحدة بين عنصرى الأمة من المسلمين والمسيحيين فقط، وإنما هى وحدة عامة شاملة، بين الغنى والفقير ومتوسط الحال، بين البدوى والقاهرى والصعيدى، بين الأبيض والأسمر، بين الرجال والنساء، بين الموظفين وأصحاب الأعمال. المصريون سواسية ولا ميزة لواحد على الآخر.

قلت له : لقد رثاك أحمد شوقى بقصيدة رائعة قال فيها:

شيعوا الشمس ومالوا بضحاها/ وانحنى الشرق عليها فبكاها/ ليتنى فى الركب لما أفلت/ يوشعٌ همّت فنادى فثناها/جلل الصبح سوادا يومها/ فكأن الأرض لم تخلع دجاها/ خطر النعش على الأرض بها/ يحسر الأبصار فى النعش سناها.

قاطعنى متحرجا:

يكفى يا بُنى. رحم الله شوقى، ورحم الله زمنا عرف فيه الناس الحق لأهله.

سألته مباغتا:

هل أنت راض عن موجات هجوم حكام وساسة ومؤرخين لاحقين وجهوا لك سهام النقد ووصموك بما يستهدف تشويهك؟

ابتسم فى رضا، ونظر لى مُهتما قبل أن يجيب:

الحرية يا بُنى أجمل القيم. لقد لاقيت سبابا ونقدا لا يحتمل خلال حياتى، لكن انظر إلى الناس يوم مماتى كيف خرجوا حزانى، ثُم انظر إلى التاريخ فيما بعد كيف أنصفنى. إن الله يا بنى عادل، لذا لا أستغرب أن أجد محبين ومهتمين وباحثين من جيلك يحاولون تنقية الصحف وتنوير الناس. لقد كتب أديبكم الجميل نجيب محفوظ الذى حصل على نوبل فى رواية «أمام العرش» حوارا تخيليا بينى وبين جمال عبد الناصر قلت له فيه: لقد حاولت أن تمحو اسمى من التاريخ. وهذا حق، لكن فى النهاية انظر ماذا بقى للناس. ماذا بقى لمصر. كتب محفوظ محاكما عبد الناصر فأدانه وقد عايشه، وكتب فأنصفنى رغم أننى عُدت لدار الحق وهو مازال صغيرا قبل أن يلتحق بالجامعة.

ثُم إن القضية لا تقف عند أديب نوبل، هناك المئات من الكتاب والمؤرخين والباحثين الذين فتشوا عن الحقيقة، وبينوا للناس ما فعلنا وما قدمنا وما حققنا، أذكر منهم عباس محمود العقاد، الشاعر أحمد شوقى، أحمد لطفى السيد، محمد فريد حشيش، محمد كامل سليم، محمود أبوالفتح، ومن بعدهم طارق البشرى، عبدالعظيم رمضان، يونان لبيب رزق، رفعت السعيد، ومصطفى أمين، وجمال بدوى. وهناك أجيال أخرى لاحقة. وعلى أى حال فإننى كتبت شهادتى بكل صراحة، وحكيت حياتى بكل صدق، غير عابئ بإثارات واقتطاع البعض لما حكيته ليرمينى بالمنكرات. لقد قلت كلمتى للتاريخ، وأعرف أن الله هو المطلع وهو المجازى وأنا راض عن كل شيء، وسعدت بلقائك.

ثم وقف منتصبا كشاب فى العشرين، وثبت طربوشه فوق رأسه، وقال لي: مصر عظيمة يا بنى. أعظم مما تتصور. صافحته ممتناً وغادرت.