عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

طارق تهامى يكتب: حكايات لا تٌنسى عن مصطفى النحاس " نبى الوطنية "

مصطفى النحاس
مصطفى النحاس

داعب سعد فخرى عبدالنور وقائلاً : «سيدنا الحُسين كان وفدياً» ليكشف عن شخصيته التى تتميز بالسماحة والصوفية والتعامل مع الواقع ولو كان مؤلماً

قضى معظم حياته فى صفوف المعارضة رغم أنه كان الزعيم الأوحد فى زمنه.. وحزبه «الوفد» صاحب الأغلبية

قال للزعيم سعد زغلول: أعاهدك أن نعيش معاً ونموت معاً.. وشاءت الأقدار أن يلقى ربه فى نفس يوم الذكرى الـــ 38 لرحيل زعيم الأمة 

جنازته رسالة واضحة لمن يريد أن يفهم: المبادئ الصادقة لا ينساها الناس.. والزعامة خٌلقت من أجل النحاس 

قال للملك ما لا يستطيعه أحد: «لقد ألححتم على المرة تلو المرة ثم ألححتم على المرة تلو المرة كى أقبل رئاسة الحكومة وقد قبلتها»

 

 بعد حركة يوليو 1952 تم تحديد حركة الزعيم مصطفى النحاس.. وكان مسجد الإمام الحسين من الأماكن المسموح له بزيارتها أسبوعياً.. وكان سعد عبدالنور، سكرتير عام الوفد فيما بعد، ونجل القيادى الوفدى البارز فخرى عبدالنور لا يرى النحاس إلا كل يوم جمعة فى مسجد الإمام الحسين بالقاهرة.. وفى إحدى المرات قال سعد عبدالنور للنحاس: يا باشا أنا مسيحى.. مش معقول كل ما أحب أشوفك لازم تجبرنى أدخل جامع الحسين! فرد عليه النحاس مازحاً: جرى إيه يا سعد إنت ماتعرفش إن مولانا الحسين كان وفدى!! ،

 

هذه الحكاية الحقيقية هى مفتاح شخصية مصطفى النحاس باشا الذى قضى عمره يدافع عن الوطن وقضيته الوطنية من خلال الوفد الحزب العريق الذى عشقه مثل روحه مستعينًا بالله.. متمسكًا بثوابته التى لا تختلف عن ثوابت كل المصريين الذين كانوا يعملون نهارًا من أجل لقمة العيش ويناضلون ظهرًا ضد الاحتلال ويزورون أولياء الله الصالحين تبركًا بهم فى مواجهة الظالمين والفاسدين ويمسكون بأيدى إخوانهم المصريين بغض النظر عن دينهم لصناعة عروة وثقى تحميهم من الطغيان والتشتت والانحدار.. كانت هكذا مصر وكان مثلها النحاس.. الذى كانت حياته مثل وفاته.. فقد عاش حياته زعيمًا مناضلًا يقاوم الاحتلال ولا يسعى إلى الحكم.. بل كان الحكم هو الذى يأتى أمامه وتحت قدميه.. ومات - أيضًا - زعيمًا بعد أن خرج الناس من بيوتهم ينحبون ويبكون رحيله.. فقد كانت جنازة مصطفى النحاس هى الدليل الأهم والأكبر على زعامته.. كانت مهيبة.. حاشدة.. فى عز مجد جمال عبدالناصر الذى صدمته هذه الحشود التى خرجت لتشييع رجل كان يعتقد أن سيرته قد ماتت قبل وفاته بثلاثة عشر عامًا قضاها تحت الإقامة الجبرية.. وكانت الصدمة الكبرى التى واجهها عبدالناصر هى الهتاف الرئيسى لمئات الآلاف الذين قالوا فى الجنازة «لا زعيم بعدك يا نحاس» فقد كان «ناصر» يغرس فى نفوس الناس كل يوم أنه الزعيم الأوحد.. ولا زعيم غيره.. فظهر النحاس ليقول له «لقد رحلت عن الدنيا.. ولا زعيم بعدي».

ولأن سيرة «النحاس»، كانت وستظل سيرة طاهرة، كانت مسيرته تعكس، هذه النظافة فى القول والفعل والعمل، ولأنه رجل طيب القلب صادق الكلمة صدقه الناس حتى بعد وفاته بأكثر من خمسين عاماً!! مصطفى النحاس الذى حكم مصر ست مرات غير متعاقبة، وكان رئيسًا للوزراء قادمًا من بين الجماهير، كرهًا لرغبة الملك، ورغم أنف الإنجليز، عاشت سيرته، لأنه تمسك بمبادئه، ولم يتراجع عنها أبدأ!!

عاش «النحاس» معظم حياته معارضاً.. وذاق طعم الحكم لكنه لم يبع وطنه من أجل مقعد فى البرلمان ولا رئاسة وزراء.. ثم قضى ما تبقى له من عمر مغضوبًا عليه من الحكام الجدد.. لكنه أبدًا لم يلن ولم يقل كلمة يحاسبه عليها التاريخ فقد كان مدافعًا صلدًا عن الديمقراطية التى غابت شمسها صباح يوم 23 يوليو 1952.. ولأكثر من ستين عاماً.. وعندما تُراجع سيرة «النحاس» السياسية ستجده قضى معظمها فى صفوف المعارضة رغم أنه كان الزعيم الأوحد فى زمنه.. وحزبه «الوفد» صاحب الأغلبية.. لكنه كان يفضل المعارضة بشرف عن الحكم بخضوع!!

«النحاس» تعرض لانتقادات شديدة بسبب قبوله تشكيل الحكومة الخامسة له، والتى استمرت أربعة أشهر من 4 فبراير 1942 وحتى 26 مايو من نفس العام، وقد تعرض للهجوم لأن الانجليز فرضوها على الملك «فاروق».. فقد كانوا يريدون حكومة يرضى عنها الشعب خوفًا من القلاقل الداخلية أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكن «النحاس» قال فى خطاب الحكومة موجهًا حديثه للملك: «لقد ألححتم على المرة تلو المرة ثم ألححتم على المرة تلو المرة كى أقبل هذه الوزارة وقد قبلتها» لينفى الرجل بذكاء شديد الاتهام الذى وجهه خصوم الوفد للنحاس بالتواطؤ من أجل الحصول على منصب رئيس الوزراء!!

ورغم كل هذه الوزارات وكل هذا السلطان كان يعود الرجل بعد أشهر قليلة من الحكم إلى صفوف الجماهير، مناضلًا ومكافحًا من أجل الحرية والديمقراطية.. لم يفسد ولم يتربح.. حتى إن خصومه حاكموه فى البرلمان وأصدروا ضده كتابًا أسود واتهموه بالفساد لأن زوجته السيدة زينب الوكيل لم تدفع رسومًا جمركية مقررة على بالطو «فرير» حضرت به من الخارج وكانت ترتديه.. فاعتبره خصومه فساداً!! وظل «النحاس» يواجه هذه التهمة الكبيرة بالفساد.. تهمة مرور زوجته بقطعة ملابس تم تصنيفها باعتبارها من الكماليات دون دفع الرسوم.. الرجل كافح وناضل ولم يسرق مليارات ولكنه لم يدفع رسومًا مقررة على قطعة ملابس فأصبح فاسداً.. ظل مقيد الحركة حتى توفى يوم 23 أغسطس 1965 وهو لا يملك سوى معاش لا يكفى تغطية ثمن الدواء.. عاش فقيرًا ومات فقيراً.. ولكنه بلا شك رحل زعيمًا فماتت الزعامة من بعده!!

 

موقفه من الأقباط

قال لى المستشار نبيل زكى عياد أحد أحباء الزعيم الشريف طاهر اليد مصطفى النحاس.. أنه قام بإعداد بحث بعنوان «مواقف مضيئة فى حياة الزعيم» حول المواقف السياسية والوطنية، وبه توثيق لعدد من القوانين المهمة التى نجح فى إصدارها وإنحاز فيها للموظف والعامل والفلاح.

البحث المختصر عن حياة النحاس يستحق القراءة، وكل محاولة لتوثيق سيرة الزعيم، هى إحياء لمبادئ لن تموت لأن صاحبها دفع ثمنها حريته ومناصبه، وكافح سنوات طوال من أجل نشرها.. تعالوا نقرأ لقطات مختصرة من بحث المستشار نبيل عياد.. تناول فيها موقف النحاس من الأقباط.

عند قيام ثورة 1919 كان كل من مصطفى النحاس ومكرم عبيد فى بيت الأمة وتأخر الليل فقال لهما سعد زغلول: امكثا عندى تلك الليلة. رد مصطفى النحاس إننا تعاهدنا أن نعيش معًا ونموت معاً.

عندما تم نفى سعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد وسينوت حنا وعاطف بركات وفتح الله بركات إلى جزيرة سيشل.. مرض مكرم عبيد بالملاريا وقام مصطفى النحاس بالسهر والتمريض عليه.

قام أحمد حسنين باشا كبير الياوران فى القصر الملكى بالوقيعة بين مكرم عبيد باشا والنحاس باشا عبر ادعاءات على زعيم الأمة لا أساس لها من الصحة انتهت بإصدار مكرم للكتاب الأسود، ورغم ذلك لما توفى مكرم عبيد باشا فى يونية 1961 حزن عليه مصطفى النحاس باشا وقال إن ضعف بصرى لم يحزننى بقدر وفاة مكرم عبيد.

حدث أيام 1928 أن إدارة البلديات أعلنت عن وظائف انتهت بنجاح أربعين متسابقًا والمطلوب اختيار السبعة عشر الأوائل من بينهم بالترتيب.. ولسبب غير معروف لم تعلن النتيجة.. فكتب أحد المتسابقين فى الصحف يقول إنه منذ شهر تأخرت النتيجة.. فاستدعى النحاس باشا مدير البلديات فرد وقال له: يا دولة الباشا.. الذين نجحوا فيهم عيب! فقال له النحاس: يعنى دول لم ينجحوا.. إيه العيب؟ فقال مدير البلديات: اتضح أن السبعة عشر الأوائل منهم اثنا عشر قبطيًا فاستشاط النحاس غضباً.. وقال له كيف تقول هذا؟ أليسوا مصريين وكيف يقال ذلك فى عهد وزارة الوفد الذى شعاره الهلال والصليب وأمره أن يرسل الكشف وبه السبعة عشر موظفًا وتم تعيينهم.. لأنه لا فرق بين مسلم وقبطى عند النحاس، وهذا هو قانون الوفد الذى لا يتم تعديله.

أيضًا ما حدث عام 1928 فى وزارة الوفد الأولى أنه كان العرف يجرى بإقامة احتفال سنوى فى موسم الحج بميدان الجيش بالعباسية، حيث يسلم أقدم لواء بالجيش المصرى المحمل إلى أمير الحج وتصادف أن كان أقدم لواء هو «نجيب باشا مليكة» القبطى.. فلم يجد النحاس باشا غضاضة فى تسليمه لأنه لا فرق بين قبطى ومسلم.

النحاس باشا عندما كان رئيسًا للوزراء عام 1950 قام بالاعتذار لضابط شرطة برتبة ملازم لأنه دفعه بيده بعد أن تم اتهامه بالخطأ أنه يحول بينه وبين الشعب (وزارة الوفد الأخيرة).

 

خبر وفاة «النحاس»

السؤال المهم الذى يدور فى الأذهان دائماً.. ماهو سبب الحشود الهائلة، التى ظهرت يوم جنازة الزعيم مصطفى النحاس، يوم 24 أغسطس 1965؟! فجموع المصريين خرجوا لوداع الزعيم لمجرد سماعهم خبرا صغيرا حول وفاة «النحاس» باشا، أُذيع فى راديو لندن «بى بى سى» الذى يبث إرساله من انجلترا، وقال البعض أن الجماهير خرجت عقب قراءتها خبر الوفاة فى صحيفة «الأهرام»؟

وأنا أستطيع أن اقول لكم أننى متأكد أن سبب الحشود هو إذاعة خبر صغير أذاعه راديو لندن، والمعلومة مصدرها، المناضل الوفدى الكبير الراحل طلعت رسلان صاحب أشهر صفعة فى تاريخ مصر، والتى وجهها لوزير الداخلية الأشرس، زكى بدر، داخل قاعة مجلس الشعب، عندما أساء لفؤاد سراج الدين، زعيم الوفد، فى واقعة شهيرة عام 1989!! فقد قال عمنا طلعت رسلان، لى شخصياً، فى أحد لقاءاتى معه فى مطلع التسعينيات، إن راديو لندن «بى بى سى» أذاع خبر وفاة الزعيم مصطفى النحاس، بعد منتصف ليل يوم 23 أغسطس 1965 ولذلك انتشر الخبر، عن طريق الاتصالات التليفونية بين الوفديين، ومن ثم بين المصريين، لتشهد شوارع القاهرة، جنازة تاريخية، بدون إعلام أو حشد ممنهج، وكانت جنازة تعبر تعبيرًا صادقًا عن حب المصريين ل«النحاس»، الذى صدر قرار «عبدالناصر» بإخفائه عن الأنظار لمدة وصلت إلى 13 عاماً.. وما لاحظه طلعت رسلان ولفت انتباهى إليه، هو أن هذه الحشود كانت عام 1965 فى عز مجد جمال عبدالناصر، وأوج شعبيته، وبالتالى كانت جنازة طبيعية، ولكنها عكست مدى احتياج المصريين لأيام «النحاس» وزعامته!

من الحكايات المثيرة، حول الجنازة، واقعة تم تداولها حول شغف وجنون المصريين بحب مصطفى النحاس نشرها رئيس تحرير «الجمهورية» الأسبق، الكاتب الصحفى مصطفى بهجت بدوى، فى منتصف السبعينيات، فى مقال بعنوان: «رقصة النصر فوق جثمان (النحاس) » تحدث فيه عن ثلاث شخصيات مصرية مؤثرة فى التاريخ رحلوا فى شهر أغسطس، قائد الفدائيين فى حرب فلسطين، القائمقام أحمد عبدالعزيز، والزعيم سعد زغلول، ومصطفى النحاس باشا.. وقال فى مقاله المثير إن المباحث الجنائية العسكرية، أرادت أن تلغى تشييع جنازة «النحاس» باشا، بحجة المحافظة على الأمن، رغم أن آلاف الآلاف من الجماهير، احتشدت وسدت الطرق من جامع عمر مكرم إلى ميدان التحرير، وحتى جامع الحسين.. فنشأت معركة حقيقة، بغير مبرر، بين الشرطة وبين جماهير الشعب: أيهما يفوز بالجثمان.. وهل تستمر الجنازة أم تتبدد؟! وانتصر الشعب بطبيعة الحال، خطف الجثمان والجماهير تهتف: «لا زعيم بعدك يا (نحاس) اشك لسعد الظلم يا (نحاس).. والزعامة ماتت من بعدك يا (نحاس) ».. حتى شوهد أحد البسطاء يرقص بجوار الجثمان فرحًا بخطف جسد الزعيم من الشرطة، وسيطرة الشعب عليه! هكذا كان «النحاس».. مع الناس.. منذ مولده وحتى الممات!

ولأن «النحاس» كان يواجه كل المؤامرات الموجهة ضده بالعقل، صار زعيمًا ولم تتوقف شعبيته عن الصعود، وهذا سر الحشود فى

جنازته.

حكاية مهمة أخرى تستحق القراءة، سردها الكاتب الكبير سعيد الشحات، قال فيها: فى 22 سبتمبر 1927 انتخب الوفد مصطفى النحاس، رئيسًا للوفد، خلفًا لسعد زغلول، وفى 17 مارس 1928 شكل وزارته الأولى، وفى يوم 22 يونية 1928 خرجت الصحف التى تصدر فى المساء، وفى اليوم التالى ظهرت صحف «الاتحاد» و«الأخبار» و«السياسة» بمانشيتات عريضة هى «فضائح برلمانية خطيرة.. رئيس الوزراء (النحاس)، ورئيس مجلس النواب، ويصا واصف» يستخدمان السلطتين التنفيذية والتشريعية لمصالحهما الذاتية، وتحت هذه المانشيتات نشرت صورة لعقد أتعاب المحامين بعد سرقته من منزل جعفر فخرى بك بالإسكندرية قبل ثلاثة أشهر والنصف.. ويؤكد صلاح عيسى فى كتابه «حكايات من دفتر الوطن» عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة»، أن «النحاس» تقدم ببلاغ يتهم هذه الصحف بقذفه لأنها وصفته هو وزميليه بالمجرمين بالفطرة والنذالة، ورغم ذلك حفظت التحقيق، وأحالت المحامين الثلاثة إلى مجلس تأديب المحامين، لارتكابهم عشرة اتهامات، من بينها، المبالغة فى الأتعاب، وعدم قطع «النحاس» صلته بالقضية بعد رئاسته للحكومة (فقد كان يترك العمل بالمحاماة بعد رئاسته للحكومة ويستمر فيها بعد عودته للمعارضة حيث كانت مصدر رزقه).

وأمام مجلس تأديب المحامين وفقا لعيسى دارت «واحدة من أكثر المعارك القانونية ضراوة»، فند فيها خمسة من ألمع المحامين هم نجيب الغرابلى ومحمود بسيونى وكامل صدقى وحسين صبرى ومكرم عبيد كل الاتهامات، ويؤكد صبرى أبوالمجد فى كتابه «سنوات ما قبل الثورة 1930-1952»، أن دفاع مكرم عبيد كان فى 156 صفحة بالغة الروعة، وجاء فيها: «ليس للسياسة ضمير فى أى بلد من بلاد الله، أما فى مصر فليس للسياسة عقل أيضاً»، وأنهى مرافعته قائلاً: «اجتمعت فى هذه القضية كل عناصر الظلام بل وعناصر الإجرام، فمن سرقة إلى تزوير إلى شهادة الزور إلى شراء الذمم، إلى الدس والتلفيق وكنا فى كل ذلك مجنيًا علينا لا جناة، فقولوا كلمتكم حاسمة فاصلة فإن شعاعًا واحدًا من نوركم يكفى لتبديد كثيف الظلام وكلمة واحدة من عدالتكم أنفذ إلى الباطل من حد السهام»، ويؤكد «أبوالمجد»: «فى 7 فبراير» مثل هذا اليوم «1929 قضى مجلس التأديب بأن التهم التى أسندت إلى، (النحاس)، و(ويصا)، و(فخرى)، خالية من كل أساس».

هكذا كان «النحاس» حتى وهو رئيس للوزراء.. يواجه الدسائس والمؤامرات من أعدائه أعداء الأمة.. وحتى خلال جنازة رحيله.. أرادوا دفنه من سكات.. ولكن سيرته العطرة كانت على كل لسان مُحب لهذا الوطن.. فعاش «النحاس» زعيمًا ومات زعيمًا لا زعيم بعده!!

 

روايات أخرى عن الجنازة

قال لى عمنا وأستاذنا، المحامى الكبير أحمد عودة رئيس شرف حزب الوفد، وشيخ الوفديين، وثالث ثلاثة شيوخ مع أساتذتنا المستشار مصطفى الطويل والأستاذ أحمد عز العرب، إن جنازة النحاس قيل أنه خلالها اعتقل نظام عبدالناصر عشرات الوفديين، وهذا غير صحيح فقد تم اعتقال 600 وفدى (ستمائة شخص هتف باسم النحاس) وكان ذلك يوم 23 أغسطس عام 1965، وغير صحيح أن هؤلاء الوفديين، ومعظمهم من شباب الوفد، قد تم اعتقالهم لمدة 24 شهرًا فقط، ولكننى أقول لك الحقيقة التى حدثت، وهى أن هذه الاعتقالات التى أسميها (الجريمة الكبرى) كانت لمدة ست سنوات، وبعضها وصلت لسبع سنوات كاملة، ولم يتم الإفراج عنهم إلا بعد وفاة عبدالناصر، وتولى السادات الحكم وبعد إطلاقه لثورة التصحيح التى نتج عنها هدم المعتقلات.

وقال شيخ الوفديين أحمد عودة، إن من بين الذين تم اعتقالهم خلال الجنازة أحمد السقا، سكرتير النحاس باشا، ونجا من الاعتقال الشاب الوفدى، فؤاد عيد، الذى عمل محاميًا فيما بعد، ثم عضوًا بمجلس نقابة المحامين، ولهروبه قصة طريفة، حيث قامت قوات البوليس بإمساكه بقوة شديدة، من قميصه، فقام بخلع القميص، الذى تمزق خلال المقاومة، وخرج بجسده من ملابسه، وقام بالجرى عاريًا من ميدان الحسين، إلى الأزهر الشريف، وانزوى فى حوارى الجمالية! وقال شيخ الوفديين: بالمناسبة.. ما زال فؤاد عيد حيًا يرزق، متعه الله بالصحة!

طبعًا.. ما قاله أستاذنا أحمد عودة يستحق التسجيل، لأن ما توافر عندنا من معلومات يتوقف عند ما سمعناه من الوفديين الذين عاشوا هذه الفترة، وما قرأناه فى كتب التراث الوفدى، حول جنازة النحاس، وأن مدة حبس شباب الوفد لم تتجاوز 24 شهرًا.. القطب الوفدى الراحل على سلامة أحد الوفديين الذين تم اعتقالهم فى جنازة النحاس قال فى كتابه «ما لا يعرفه الناس عن الزعيم مصطفى النحاس» والصادر عام 1983 واصفًا جنازة النحاس.... «هتافات مدوية، وأكف مصفقة، حينما غادر نعشك السيارة التى أقلتك فتلقفتها الجماهير، كما كانت تتلقفك فى حياتك بالأحضان والقبلات» وقال الأستاذ خالد محمد خالد فى سرادق العزاء معلقاَ عما تركته الجنازة من انطباعات فى نفسه «لقد رأيت مصطفى النحاس خطيبًا ولكنى لم أره أخطب منه فى مثل هذا اليوم العظيم».. لقد كنت أروع خطيب وأعظم خطيب.. فألهبت مشاعر الشعب.. وكأنك تطالبهم بالبذل والفداء والتضحية فى سبيل مصر والتمسك بالديمقراطية والحرية.. ولقد أثارت جنازتك الشعبية هذه حفيظة المسئولين.. فدفعت أنا وثلاثة وعشرون من إخوانى الوفديين ثمناَ غاليًا بافتقادنا حريتنا لمدة تزيد على 25 شهراَ قضيناها فى معتقلات القلعة وطرة فى المدة من 25-8-1965 وحتى 14-11-1967 والقراران الجمهوريان رقما 3432 مكرر لسنة 1965 و2026 لسنة 1967 خير شاهدين على ذلك».

إذن.. لدينا روايتان.. واحدة قالها أستاذنا أحمد عودة وقال فيها إن المعتقلين عددهم 600 ومدة الاعتقال وصلت إلى سبع سنوات، والرواية الثانية ذكرها أستاذنا على سلامة رحمة الله عليه، وقال فيها إن عدد المعتقلين 24 وفديًا وإن مدة الاعتقال بلغت 25 شهرًا فقط!

معلومات أحمد عودة وعلى سلامة مختلفة عما قاله الكاتب الكبير محمد شاكر مدير مكتب أخبار اليوم بالإسكندرية الأسبق، فقد كتب شهادته عن الجنازة فى الجريدة يوم 30 أغسطس 2014 وقال فيها: منذ 49 عامًا وتحديدًا الساعة السابعة صباح الثالث والعشرين من شهر أغسطس 1965 فوجئت بعد وصولى إلى مكتب دار أخبار اليوم بمكالمة من سكرتير محافظ الإسكندرية حمدى عاشور والذى كان رمزًا وطنيًا لا يتكرر كثيرًا... يبلغنى أن أحضر فورًا إلى عنوان إحدى الفيلات فى منطقة لوران لتغطية خبر مهم.. واتضح أن الخبر هو وفاة الزعيم مصطفى النحاس الذى كان فى الإسكندرية وقتها.. وقال لى المحافظ: اوعى تصور هنا خاصة زينب هانم يقصد (السيدة زينب الوكيل) التى كانت تقف فى الدور الثانى بجوار جثمان الزعيم وتبكى بكاءً مرًا وبجوارها - كما عرفت فيما بعد- المرحوم عبدالفتاح الوكيل وهو شقيقها وعدد لم أستطع التعرف على وجوههم لرهبة الموقف.. وتم عمل خطة تمويه حيث تم تسفير سيارة إسعاف كبرى للقاهرة تحيط بها سيارات شرطة بما يوحى أنها تحرس شيئًا ما داخل سيارة الإسعاف وتم التنبيه على السائق بألا يقف لأى من يعترض خط سير السيارة وشدد على ذلك الدكتور العمروسى وكيل وزارة الصحة وسارت السيارة فى الطريق الزراعى الذى كان وقتها هو الطريق السريع.. أما جثمان النحاس باشا فقد انتقل عبر الطريق الصحراوى وهو طريق ذهاب وإياب (مفرد) واحتضن العلم المصرى الرسمى جثمان النحاس باشا وخلفه سيارة المحافظ تستقلها زينب هانم الوكيل وباقى السيارات لأفراد الأسرة.

رواية محمد شاكر تعنى أن القرار الرسمى كان (دفن النحاس من سكات) ولكن خبرًا صغيرًا بإذاعة راديو (بى بى سى) كشف عن رحيل الزعيم فخرجت الجماهير لوداعه بلا استئذان!

الحقيقة الوحيدة التى لا يختلف عليها أحد.. هى أن النحاس قد مات.. ولكن سيرته أبدًا لا تموت!