عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

بريد الوفد .. الدكتور ومقهى الواحة

بوابة الوفد الإلكترونية

كانت هيئته هى الجاذب لعينى محاولاً تتبعه مرة تلو الأخرى، وإن لم تتغير جلسته، مرات عدة كنت أداوم الدخول لعالم المقهى، فأجده بنفس الجلسة، وفى نفس المكان الذى بدا مقارباً لهيئته، حيث الوحدة والعزلة، كرسى أمامه منضدة ثم ستار من حائط خشبى مفرغ بالأرابيسك يسمح له بمراقبة رواد المكان دون أن يسمح لأحد بالتلصص عليه، فكأنما يرى دنياه المصغرة عبر تلك الثقوب المنمقة والمنحوتة فى عظم الخشب. وقد قسّمت معالم ذلك الملمح البشرى والإنسانى إلى قسمين، قسم نهارى وقسم ليلى، فأما القسم النهارى وتحديداً فى الثانية بعد الظهر، تجده فى بدلة رسمية برابطة عنق غير مهندمة، وقميص بكرمشة واضحة، بيده حقيبة جلدية، يحملها على ذراعه بينما شعره الأبيض المنكوش والشبيه بحلوى غزل البنات الأبيض يعلو رأسه فتخاله حاملاً لكومة عصافير تنقر فى أرضية رأسه يخفيها بذلك الهيش الأبيض المبعثر فوق دماغه. وخطواته أشبه بكائن إلى يسير فى خطوات مفتوحة بزاوية منفرجة. لا يسلم على أحد، ينادى على «المصرى» عامل المقهى دون أن يطلب شيئاً، وبعد دقائق يأتى المصرى بصينية نحاس عليها كوب من القهوة. يضعه فى تأدب بقوله: «قهوتك يا دكتور». ثم ينصرف.

وفى الليل يأتى بمجموعة أكياس بلاستيكية، بها عبوات من بسكويت الأطفال، يغمس البسكويت فى الشاى، ثم يخرج بضع أوراق فارغة ويمسك بالقلم ويكتب عليها ثم يظل يحادث نفسه كأنما هو مخرج مسرحى يستنطق شخوصه ويحادثهم ويحادثونه دون أن ترى لتلك الشخوص وجوداً ملحوظاً أو مادياً ملموساً، نوبة الليل تبدأ من بعد منتصف الليل، يجلس فى نفس مكانه حيث العالم المنعزل داخل مقهى الواحة، مع اختلاف المشروب، كوب من الشاى أشبه بوعاء لغمس البسكويت الذى يأكله على مهل، ويتلذذ بذوبانه فى فمه.

مقهى الواحة.. حيث الذهاب منفرداً حين أود الاختلاء بنفسى، تبدو ككهف مشقوق داخل إطار الزمان والمكان، تستطيع أن ترقب حيوات المارة متجهة مسرعة للحاق بالقطار أو ركوبات الفقراء فى المدينة، غير أن الملمح البشرى والإنسانى لهذا الرجل أخرجنى من تلك الخلوة التى أقتنصها بعيداً عن ضجيج وأفكار العقل البشرى، وذات مساء كان صديقى «محمد» ملاحظاً انتباهى لذلك الرجل، كان محمد يحدثنى عن ولده مصطفى وانهماكه فى ساعات المذاكرة وتخوفه الذى أصابه بهبوط فى ضغط دمه وهو لم يزل صبياً لكنه لاحظ انتباهى وتركيزى منصباً على هذه الكومة البشرية.. «الدكتور».

- أنت ليه مركز مع الراجل ده؟

لم يكن هناك رد واف أو منطقى أستطيع الرد به على صديق الجلسة محمد الديب، لكنى بادرته بتساؤل: «لماذا يقضى الليل كله هنا؟» وأين زوجته وعياله؟ وماذا يكتب فى هذه الورقة ومع من يتكلم منعزلاً عن ذلك العالم؟

وجدتنى فى اليوم الثانى عاكفاً على فض بكارة ذلك اللغز الإنسانى، بغير إذن منه، وبمنتهى التبجح والسفور، وقد جلست هذه المرة فى منضدة مجاورة كى أسترق السمع، لعلنى أتعرف على من يحادثهم ويشير لهم، لم أكن هذه المرة مراقبا له من الثقوب، كنت أتعامل معه بمنطق المكفوف الذى ركز كافة حواسه لاستراق السمع دون أن أرى ملامحه وهو يشير أو يطوح بيده لحظة انفعال أو يحك أرضية رأسه بإصبعه، فعلت هذا بمنتهى الدونية والخسة، رغم فراره هو من كل العوالم ليأتى منفرداً، كنت أنا من ألاحقه دون أن يدرى.

الزمان الثانية بعد منتصف الليل، خلا مقهى الواحة من رواده، لم يتبق سوى الحاج عادل زمزم صاحب المقهى جالسا يتصفح جريدة ورقية

بينما نظارته تتدلى على مقدمة أنفه، نفس المنضدة يجلس عليها الرجل ذو الشعر الهش، مواجهاً للحائط الخشبى وفى ظهره مرآة، ومنعزلا كعادته عن كل العوالم من حوله. على مقربة منه وتحديداً إلى جواره، كنت قد دبرت أن أحتل المنضدة التى تجاوره فيصبح كلانا معزولاً عن الآخر بينما أذنى تجتاح عالمه محتلة جلسته ومستقرة حيث الورق الذى يخط عليه بقلمه. فعلت هذا متعمداً أعترف، مع سبق الإصرار والترصد، فعلته رغماً عنى لكنى فى كل الأحوال اعترف بخطيئة المعرفة وجرم الاقتحام.

بدا الصوت مشوشاً، ثم تغيرت نبرة الصوت، استمعت أذنى لإيقاع القلم يهوى على المنضدة فى غضب وشرع فى الحديث «الليل بقى صعب يا نفيسة.. ما عدتش قادر أبص للصورة فوق التسريحة، بقيت وحيد، وعيالك كل واحد منهم فى مواله، الكبير ما بيشبعش ولا عمره هيشبع طول ما هو مش قانع باللى كاتبه ربنا له، أنا نفذت اللى قلتيه، إيه بقى سبب زعلك؟.. انتظرتك إمبارح وأول.. بقيتى تغيبى كتير ولما يئست من زيارتك قلت آجى أقعد هنا... أنا كتبت الجواب لابنك وكل أسبوع بابعت له، لكن مفيش رد لغاية دلوقت، أخته قالتلى أنه غير تلفونه، يمكن أكون بقيت تقيل عليه، أو مستعر منى قدام نسايبه.. أنا بقيت باخاف من الضلمة يا نفيسة، قلبت ميعاد نومى، بأقعد فى القهوة لغاية لما النور يطلع وأروح أنام وأنزل تانى بعد الظهر، باكوى القميص وبألبس الجرافتة اللى كنتى جايبهالى، لسا بربطة إيدك، ماتزعليش منى بقالى أسبوعين ما زرتكيش، والست بتاعة الورد شكلها بيشتغلنى وتاخد العشرين جنيه وما تسقيش الريحان والصبار، رجلى بقيت أجرها بالعافية.. لسا برضو قلقانة على العيال، أنا عملت زى ما طلبتى بعتلهم الأرض وما بقتش أروح العيادة وإيجارها مع المعاش عايش بيهم.. نفيسة أنا خايف أموت لوحدى.. هنا هيطلبولى الإسعاف وحد من ولاد الحلال هيتصل ببنتك تيجى تستلمنى وتسترنى فى التراب... »

أسمع شخير الرجل، يده تنسدل على جانبى المقعد، يأتى «المصرى» فى هدوء يسحب كوب الشاى ويعدل من رأسه فى حنو. اتسحب من جلستى لأقف، وكأننى لم أكتف بجريمة التلصص على الوجع، فأرقبه بشعره المنكوش، وهو مسترخ فى نوم طفولى، بينما صوت شخيره يرتفع. وبقايا من بسكويت مفتت متناثر على منضدة المقهى.