رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أزمة التمويل الأجنبي ما بين القضاء والسياسة

لم أكن أنتوي الكتابة في القضية المسماه إعلاميا بقضية " التمويل الأجنبي" نظراً لكونها معروضه في الوقن الراهن أمام القضاء، ولكن كثر اللغط في الفترة الأخيرة عن ملابسات هذه القضية، لذا وجدت نفسي أمام خيار وحيد وهو إبداء رأيي في تلك الملابسات دون المساس بموضوع القضية.

بدأت القضية حينما فاجئتنا سلطات التحقيق ذات يوم بمداهمة مقرات بعض منظمات المجتمع المدني بتهمة تلقى أموال من الخارج بعيدآ عن رقابة الحكومة المصرية على الرغم أن الحكومة المصرية كانت تعلم جيدآ بوجود تلك المنظمات وكانت وزارة الداخلية ترفض إعطائها تراخيص بنشاطها، وفوجئنا أيضآ بأن من بين المتهمين مواطنين أمريكان أحدهما نجل وزير النقل الأمريكي الأسبق.
ثم خرجت علينا بعد ذلك الوزيرة فايزة أبوالنجا لتخبرنا بأن هناك بعضا من منظمات المجتمع المدنى تعمل بدون ترخيص، وأن جزءا من عملها يهدد الاستقرار والأمن فى مصر، ثم سرعان ما بدأت التحقيقات من خلال قضاة تحقيق تم اختيارهم من قبل رئيس محكمة استئناف القاهرة، وقد عقد هؤلاء القضاة مؤتمراً صحفياً للإعلان عن نتائج التحقيقات، وهو أمر جديد وغريب علي هيئة القضاء، التي ينحصرها عملها في داخل المحاكم.
وانتهي قضاة التحقيق إلي أن هناك جرائم جنائية يعاقب عليها القانون لعدد من الأجانب والمصريين، وبالتالى لابد من إحالتهم إلى محكمة الجنايات، وبالفعل تمت إحالة جميع المتهمين المصريين والأجانب لمحكمة الجنايات وبالتحديد إلى محكمة يترأسها المستشار محمد محمود شكرى، وعقدت الجلسة الأولى لتلك المحاكمة، وكانت هى المرة الأولى التى يرى فيها المصريين مواطنين أمريكيين يخضعون لمحاكمة وطنية من القضاء المصرى، وقررت المحكمة التأجيل لشهر أبريل المقبل.
وقد فاجئتنا المحكمة بكامل هيئتها التى تنظر القضية بتنحيها عن نظرها وإحالتها إلى محكمة إستئناف القاهرة للنظر فى قرار التنحى وتحديد دائرة أخرى لنظر القضية، وقد كان من الممكن ألا يكون فى الأمر شيئ،، فالتنحى عن نظر قضية ما هو حق يعطيه قانون المرافعات وقانون الإجراءات الجنائية للقاضى الذى يجد حرجآ فى أن يستمر فى نظر قضية أمامه أو إذا وجدت موانع محددة بنص القانون تمنع القاضي عن نظر القضية.
لكن الأمر لم يكن كذلك في قضية التمويل الأجنبي بل أنه أخذ منحي آخر، حيث أصدرت المحكمة قراراً بالتنحى جاء نصه كالتالي: ( بعد الإطلاع على الطلبات المقدمة من الدفاع الحاضر عن المتهمين الغائبين بخصوص إلغاء قرار قاضى التحقيق بمنع المتهمين الأمريكيين من السفر، وبعد الأطلاع عى المادتين 288 و249 فقرة 2 من قانون الإجراءات الجنائية، وبعد الإتصال الوارد لنا من السيد المستشار عبد المعز إبراهيم رئيس محكمة الإستئناف بإلغاء قرار منع المتهمين، وبعد المداولة قررت هيئة المحكمة: التنحى عن نظر القضية برمتها لإستشعار الحرج، وترسل القضية برفقة الطلبات إلى محكمة إستئناف القاهرة لعرضها على رئيس المحكمة للنظر وإحالتها إلى دائرة أخرى). 
ويشير نص هذا القرار إلي أن رئيس محكمة إستئناف القاهرة قام بالاتصال بالمستشار رئيس الدائرة التى تنظر القضية وطلب منه صراحة إلغاء قرار منع المتهمين الأمريكيين من السفر وهو ما إستشعرت معه المحكمة الحرج وتنحت عن الإستمرار فى نظر القضية، وهو أمر يعد في غاية الخطورة بل أنه يمثل جريمة وفقا لقانون العقوبات، وزاد الأمر بله حينما خرج علينا بعد ذلك رئيس محكمة إستئناف القاهرة في تصريح يدعو للاستغراب بأنه هو الذى طلب من رئيس الدائرة تنحيه عن نظر القضية بسبب أن نجله يعمل بمكتب محاماه له تعاملات مع  السفارة الأمريكية، وهو ما نفاه المستشار محمود شكرى جملة وتفصيلا، ودلل على ذلك بأن هذا الكلام لو كان صحيحآ لتنحى هو وحده عن نظر القضية ولكن الذي حدث هو تنحي هيئة المحكمة بالكامل.
وبعد ذلك تم إحالة الأوراق إلى قاضى آخر ومحكمة أخرى، أصدرت فى ذات اليوم قرارآ بإلغاء قرار منع المتهمين الأمريكيين من السفر والسماح لهم بدفع كفالة مالية.
والذي يدعو للسخرية أن كل ذلك توقعته السيدة هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية صباح اليوم نفسه، حيث صرحت بأن تلك القضية فى طريقها

إلى الحل مع الحكومة المصرية!!!
ونستطيع - من خلال استقراء الأحداث السابقة - أن نقول أن القضية برمتها لم تكن قضية جنائية، بل هي قضية سياسية أرادت السلطات المصرية الضغط بها علي الحكومة الأمريكية لغرض ما أو لصفقة ما تريدها، وأيا ما كان هذا الغرض أو تلك الصفقة فإنه لا دخل للقضاء فيه، حيث أن القضاء لا يعرف مفهوم الصفقات أو الأغراض السياسية وإنما يعرف أحكاماً تصدر إما بالبراءة أو الإدانة.
ما حدث في هذه القضية يعد خرقا للقانون وتدخلا سافرا في السلطة القضائية، وهو غير مبرر من أي سلطة في الخارج أو الداخل، وحتي لو كان هذا التدخل من رئيس محكمة الإستئناف التى يترأس الدائرة التي تنحت عن نظر القضية، إذ ان تلك الرئاسة لا تتعد حدود الرئاسة الإدارية فحسب، والقاضي لا رئاسة ولا سلطان عليه سوي ضميره.
وأعتقد أن موقف المحكمة من هذه القضية بتنحيها بكامل هيئتها، وكذا موقف قاضيا التحقيق الذين اعتذروا عن استكمال التحقيقات لشعورهما بأن تحقيقاتهما لا جدوى منها بعد التدخل السياسى فى القضاء لهو دليل علي نزاهة وحيدة القضاء المصري، وإذا كان الضغط علي هذه المحكمة للتنحي تم من قاضي أيضا، فإنه لابد أن نعلم جميعا أن كل جهاز بالدولة فيه الصالح والطالح، وكون أحد القضاة قد أخطأ فذلك ليس معناه إلصاق التهم بجهاز القضاء بالكامل، وإلا كان ذلك ظلما بين.
ولكن أنا مع مطالبة جموع القضاه للمجلس الأعلي للقضاء بضرورة فتح باب التحقيق في هذه الجريمة، ومحاسبة القضاه المسئولين عن هذا التصرف الذي أساء للهيئة القضائية بأكملها، وإعلان ذلك للرأي العام، فكما إعلنت ملبسات هذه القضية منذ البداية علي الرأي العام، فلابد أيضا أن يتم معالجتها وعرضها علي الرأي العام حتي يستعيد القضاء هيبته التي كادت أن تفقد بسبب هذه القضية. وكذلك ليعلم الجميع أن القضاء لا يتستر على خطأ أو على مخطئ، وأنه حريص كل الحرص على أن يظل دائماً أهلاً لثقة الشعب فيه.
وختاماً يجب عدم مرور هذا الجريمة مرور الكرام كما مرت جرائم أخري، ويجب أن نبعد القضاء عن ما يسمى بالصفقات والتوازنات السياسية حيث أن ذلك يعد أمر بالغ الخطورة لما يمثله من انتقاص لهيبة القضاء واستقلاله وتقويض لدعائمه. ونحن كقضاة نحتاج قبل غيرنا إلى فهم ما جرى ودوافعه وملابساته فى إطار تحقيق عادل يجرية أصحاب الشأن لاستظهار الحقيقة ومحاسبة المخطئ، ولا نريد أن يكون هذا الموضوع كسابقيه من حيث انشغال الرأي العام به فترة ثم هدءوه وظهور موضوع آخر ينشغل به الجميع، ويترك هذا الموضوع دون تحديد المسئولين عنه ومحاسبتهم.

-------------
الخبير في مجال القانون الجنائي الدولي
[email protected]