رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عمر مكرم ... مسيرة زعيم و سيرة وطن

بوابة الوفد الإلكترونية

عمر مكرم بن حسين السيوطي (1750 - 1822) هو زعيم شعبي مصري ، ولد في أسيوط إحدى محافظات مصر ـ،  ثم انتقل وتعلم في الأزهر الشريف ، كما تولى نقابة الأشراف في مصر ،  وقاوم الفرنسيين في ثورة القاهرة الثانية سنة 1800 م. 

وحينما استقرت الأمور لمحمد علي خاف من نفوذ العلماء فنفى عمر مكرم إلى دمياط سنة 1222 هـ، وأقام بها أربعة أعوام، ثم نقل إلى طنطا.

وتوفي عام 1822 م 

ظهر العالم  "عمر مكرم" كقائد شعبي عندما قاد حركة شعبية ضد ظلم الحاكمين المملوكيين "إبراهيم بك" و"مراد بك"، عام (1210هـ = 1795م) ورفع لواء المطالبة بالشريعة والتحاكم إليها كمطلب أساسي كما طالب برفع الضرائب عن كاهل الفقراء وإقامة العدل في الرعية.[1]

تميزت حياة السيد عمر مكرم بالجهاد المستمر ضد الاحتلال الأجنبي، والنضال الدؤوب ضد استبداد الولاة وظلمهم، وكان ينطلق في هذا وذاك من وعي إسلامي عميق وفذ وإيجابي.

ففي إطار الجهاد ضد الاحتلال الأجنبي نجد أنه عندما اقترب الفرنسيون من القاهرة سنة 1798 م قام السيد عمر مكرم بتعبئة الجماهير للمشاركة في القتال إلى جانب الجيش النظامي " جيش المماليك في ذلك الوقت "، وفي هذا الصدد يقول الجبرتي " وصعد السيد عمر مكرم أفندي نقيب الأشراف إلى القلعة فانزل منها بيرقًا كبيرًا اسمته العامة البيرق النبوي فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق وأمامه ألوف من العامة " ويعلق الرافعي على ذلك بقوله: ”وهذا هو بعينه استنفار الشعب إلى التطوع العم بعد هجمات الغازي المغير والسير في طليعة المتطوعين إلى القتال “.

وعندما سقطت القاهرة بأيدي الفرنسيين، عرض عليه الفرنسيون عضوية الديوان الأول إلا أنه رفض ذلك، بل فضل الهروب من مصر كلها حتى لا يظل تحت رحمة الفرنسيس.

ثم عاد  عمر مكرم إلى القاهرة وتظاهر بالاعتزال في بيته ولكنه كان يعد العدة مع عدد من علماء الأزهر وزعماء الشعب لثورة كبري ضد الاحتلال الفرنسي تلك الثورة التي اندلعت في عام 1800م.. فيما يعرف بثورة القاهرة الثانية، وكان السيد عمر مكرم من زعماء تلك الثورة، فلما خمدت الثورة أضطر إلى الهروب مرة أخري خارج مصر حتى لا يقع في قبضة الفرنسيين الذين عرفوا أنه أحد زعماء الثورة وقاموا بمصادرة أملاكه بعد أن أفلت هو من أيديهم، وظل السيد عمر مكرم خارج مصر حتى رحيل الحملة الفرنسية سنة 1801 م.

وفي إطار جهاد عمر مكرم ضد الاحتلال الأجنبي، نجد أن السيد عمر مكرم قاد المقاومة الشعبية ضد حملة فريزر الإنجليزية 1807م، تلك المقاومة التي نجحت في هزيمة فريزر في الحماد ورشيد مما أضطر فريزر على الجلاء عن مصر.

وفي هذا الصدد يقول الجبرتي: "نبه السيد عمر النقيب على الناس وأمرهم بحمل السلاح والتأهب لجهاد الإنجليز، حتى مجاوري الأزهر أمرهم بترك حضور الدروس، وكذلك أمر المشايخ بترك إلقاء الدروس".

ويعلـق الرافعي على ذلك بقوله: "فتأمل دعوة الجهاد التي بثها السيد عمر مكرم والروح التي نفخها في طبقات الشعب، فأنك لتري هذا الموقف مماثلا لموقفه عندما دعا الشعب على التطوع لقتال الفرنسيين قبل معركة الأهرام، ثم تأمل دعوته الأزهريين إلى المشاركة في القتال تجد أنه لا ينظر إليهم كرجال علم ودين فحسب بل رجال جهاد وقتال ودفاع عن الزمان، فعلمهم في ذلك العصر كان أعم وأعظم من عملهم اليوم".

ولعل الرافعي قد وضع يده على النقطة الحرجة في مسألة الكفاح ضد الاستعمار والنجاح في هزيمته وحماية بلادنا منه، فإذا كان الشعب المصري قد نجح مرتين في أقل من عشر سنوات في هزيمة محتلين استعماريين هما الحملة الفرنسية 1798 م ـ 1801 م، والحملة الإنجليزية المعروفة بحملة فريزر 1807 م فإن ذلك يرجع إلى قيام علماء الأزهر بواجبهم في قيادة الشعب للجهاد والقتال والدفاع عن الزمار، يرجع إلى وجود العلاقة الصحيحة بين الأمة، وقيام الأزهر بواجبه كقيادة طبيعية للأمة، ولكن عندما قام محمد علي ومن بعده بفصم هذه العلاقة والقضاء على دور العلماء وإحلال النخب المغتربة محل العلماء في قيادة الأمة سقطت مصر في قبضة الاحتلال الإنجليزي سنة 1882م.

وفي إطار نضال السيد عمر مكرم ضد الاستبداد والمظالم، نجد أنه قاد النضال الشعبي ضد مظالم الأمراء المماليك عام 1804م، وكذا ضد مظالم الوالي خورشيد باشا سنة 1805، ففي يوم 2 مايو سنة 1805 م بدأت تلك الثورة، حيث عمت الثورة أنحاء القاهرة وأجتمع العلماء بالأزهـر وأضربوا عن إلقاء الدروس وأقفلت دكاكين المدينة وأسواقها، واحتشدت الجماهير في الشوارع والميادين يضجون ويصخبون، وبدأت المفاوضات مع الوالي للرجوع عن تصرفاته الظالمة فيما يخص الضرائب ومعاملة الأهالي، ولكن هذه المفاوضات فشلت، فطالبت الجماهير بخلع الوالي، وقام السيد عمر مكرم وعدد من زعماء الشعب برفع الأمر إلى المحكمة الكبرى وسلم الزعماء صورة من مظالمهم على المحكمة وهي إلا تفرض ضريبة على المدينة إلا إذا أقرها العلماء والأعيان، وأن يجلو الجند عن القاهرة وألا يسمح بدخول أي جندي إلى المدينة حامـلا سلاحه.

وفي يوم 13 مايو قرر الزعماء في دار الحكمة عزل خورشيد باشا وتعيين محمد علي بدلا منه بعد أن أخذوا عليه شرطًا: "بأن يسير بالعدل ويقيم الأحكام والشرائع، ويقلع عن المظالم وإلا يفعل أمرًا إلا بمشورة العلماء وأنه متي خالف الشروط عزلوه".

وفي يوم 16 مايو 1805 صدرت فتاوى شرعية من المحكمة على صورة سؤال وجوابه بشرعية عزل الوالي خورشيد باشا، وأنتهي الأمر بعزل الوالي خورشيد باشا، ونجاح الثورة الشعبيـة.

وإذا تأملنا هذه الأحداث، نجد أن هذه ثورة شعبية ضد الاستبداد استندت إلى فتوى شرعية من المحكمة، وأنها قامت بتولية محمد علي حاكمًا على مصر من خلال معاهدة وشروط بين محمد علي "الوالي الجديد" وبين زعماء الشعب، وأقرت مبدأ الشورى، وعدم اتخاذ قرار بدون الرجوع لممثلي الشعب، وهم العلماء والأعيان، ولو سارت الأمور في مسارها الصحيح بعد ذلك لكان إيذانًا بروح من الحرية والشورى واحترام إرادة الشعب وخياراته يسود مصر، ولكن محمد علي التف على هذا الأمر وأفرغه من مضمونه فيما بعد.

وكان السيد عمر مكرم هو زعيم هذه الحركة الشعبية ومحركها، وفي ذلك يقول الرافعي: "كان للشعب زعماء عديدون يجتمعون ويتشاورون ويشتركون في تدبير الأمور، ولكل منهم نصيبه ومنزلته، ولكن من الإنصاف أن يعرف للسيد عمر مكرم فضله في هذه الحركة فقد كان بلا جدال روحها وعمادهـا".

وإذا كان السيد عمر مكرم مجاهدًا ضد الاستعمار، مناضلا ضد الاستبداد فإنه في نفس الوقت كان يملك وعيَا إسلاميًا فذًا ومتقدمًا، ويظهر ذلك من خلال حواره مع مستشار الوالي خورشيد باشا، ووفقًا لرواية الرافعي... فقد التقى السيد عمر مكرم يومًا بعمر بك مستشار خورشيد باشا فوقع بينهما جدال..

فكان مما قاله عمر بك: ” كيف تنزلون من ولاه السلطان عليكم؟ وقد قال الله تعالى {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]!!

فأجابه السيد مكرم: "أولوا الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وهذا رجل ظالم حتى السلطان والخليفة إذا سار في الناس بالجور فإنهم يعزلونه و يخلعونه".

فقال عمر بك: "وكيف تحصروننا وتمنعون عنا الماء والأكل وتقاتلوننا؟ أنحن كفرة حتى تفعلوا معنا ذلك؟".

فقال السيد مكرم: "قد أفتى العلماء والقاضي بجواز قتالكم ومحاربتكم؛ لأنكم عصاة".

كان "عمر مكرم" يصر على استمرار حمل الشعب للسلاح حتى إقرار النظام الجديد، وهو نظام "محمد علي" الذي اختاره الشعب ليكون حاكمًا للبلاد، إلا أن رأي غالبية المشايخ -وعلى رأسهم الشيخ "عبد الله الشرقاوي"- هو أن مسألة إنزال "خورشيد" من القلعة قضية تخص الوالي الجديد.

استمرت هذه الثورة المسلحة بقيادة "عمر مكرم" 4 أشهر، وأعلنت حق الشعب في تقرير مصيره واختيار حكامه، وفق مبادئ أشبه بالدستور تضع العدل والرفق بالرعية في قمة أولوياتها.

الخلاف مع محمد علي

كانت الحكومة كلما احتاجت الى المال تفرض ضرائب واتاوات جديدة على الأطيان والمتاجر وغيرها، فساءت الحالة الاقتصادية ، ووقع الضنك واستد الضيق بالأهالي، وكثرت هجرتهم من القرى، وزاد الحالة حرجا نقص النيل نقصا فاحشا في فيضان أغسطس سنة 1808، فارتفعت الأسعار، واشتد الغلاء، وقلت الغلال في الأسواق ، فلجأ الأهالي كعادتهم الى العلماء، وهؤلاء كلموا محمد علي في كثر الضرائب وطلبوا ليه رفع تلك المظالم، فغضب عليهم الباشا، ونسب اليهم ظلم الأهالي لأنه حينما اعفى اطيانهم من الضرائب الجديدة كانوا هم مع ذلك يقتضونها من الفلاحين، وتهددهم بمراجعة ما نالهم من هذا الباب، فقبلوا المراجعة ، وكان هذا الجدل نذيرا باشتداد الخلاف بين محمد علي باشا والعلماء، واتفقوا على اقامة صلاة عامة للاستسقاء، وهي الصلاة التي تقام ما شح النيل للدعاء الى الله ان يرفع الكرب ويجري الماء.[2]

قال الجبرتي في هذا الصدد: "فلما كان يوم سبت 27 جمادى الثانية سنة 1223 وخامس عشر مسرى القبطي نقص النيل نحو خمس أصابع وانكشف الحجر الراقد الذي عند فم الخليج تحت الحجر القائم، فضج الناس ورفعوا الغلال والعرصات والسواحل، وانزعجت الخلائق بسبب شح النيل في العام الماضي وهيفان الزرع وتنوع المظالم وخراب الريف وجلاء أهله واجتمع في ذلك اليوم المشايخ عند الباشا فقال لهم اعملوا استسقاء وأمروا الفقراء والضعفاء والأطفال بالخروج الى الصحراء ودعوا الله، فقال له الشيخ الشرقاوي ينبغي أن ترفقوا بالناس وترفعوا الظلم، فقال أنا لست الظالم وحدي، وأنتم أظلم مني، فاني رفعت عن حصتكم الفرض والمغارم اكراما لكم وأنتم تأخذونها من الفلاحين، وعندي دفتر محرر فيه ما تحت أيديكم من الحصص يبلغ ألفي كيس، ولابد أني أفحص ذلك، وكل ما وجدته يأخذ الفرضة المرفوعة عن فلاحيه أرفع الحصة عنه، فقالوا له لك ذلك، ثم اتفقوا على الخروج والسقيا في صحبها بجامع عمرو بن العاص لكونه محل الصحابة والسلف الصالح يصلون به صلاة الاستسقاء ويدعون الله ويستغفرونه ويتضرعون اليه في زيادة النيل، وبالجملة ركب السيد عمر والمشايخ واهل الازهر وغيرهم والاطفال واجتمع عالم كثير وذهبوا الى الجامع المذكور بمصر القديمة، فلما كان في صحبها وتكامل الجمع صعد الشيج جاد المولى على المنبر وخطب به بعد أن صلى صلاة الاستسقاء، ودعا الله وأمن الناس على دعائه وحول رداءه، ورجع الناس بعد صلاة الظهر وبات السيد عمر هناك، وفي تلك الليلة رجع الماء الى محل الزيادة الأولى واستتر الحجر الراقد بالماء،وفي يوم الاثنين خرجوا أيضا، وأشار بعض الناس باحضار النصارى أيضا، فحضروا وحضر المعلم غالي ومن يصحبه من الكتبة الأقابط، وجلسوا في ناحية من المسجد يشربون الدخان، وانفض الجمع أيضا، وفي تلك الليلة التي هي ليلة الثلاثاء، زاد الماء ونودي بالوفاء وفرح الناس، وطفق النصارى يقولون ان الزيادة لم يتحصل الا بخروجنا، فلما كانت ليلة الأربعاء طاف المنادون بالرايات الحمر ونادوا بالوفاء، وعمل الشنك والوقدة تلك الليلة على العادة، وفي صبحها حضر الباشا والقاضي واجتمع الناس وكسروا السد وجرى الماء في الخليج جريانا ضعيفا".

وبالرغم من جريان النيل قارن الضائقة الاقتصادية لم تخف وطأتها، وزادت الحكومة في فرض الضرائب، فازداد البؤس واشتد الضيق بالناس.

ولما كانت سنة 1809 قرر محمد علي باشا فرض ضريبة المال الميري على الاراضي الموقوفة، وهي المعروفة بالرزق الأحباسية اي المرصدة على المساجد والسبل والخيرات، وكذلك على أطيان الأوسية التي كانت ملكا خاصا للمتلزمين، وهذه الأطيان كانت كلها معفاة من الضرائب، وقرر كذلك فحص أطيان الرزق والأوقاف وطلب حججها ممن يتولون النظر عليها وأمر حكام الأقاليم (الكشاف) بالاستيلاء على تلك الأطيان اذا لم يقدم أصحابها الى الديوان حجج انشاء الوقف، ومعنى ذلك تمهيد السبيل لمصادرة معظم الأطيان الموقوفة، لان الكثير منها قد تقادم العهد على وقفه بحيث اصبحت حججه لا تنطبق عليه لتغير المعالم أو للنزاع في الاستحقاق، وتخويل حكام الأقاليم أمر فحصها معناه اطلاق يدهم في الغاء ما شاءوا من الاوقاف.

وقررت الحكومة أيضا الزام جميع المتلزمين بأن يؤدوا للحكومة نصف الفائض لهم من الالتزام، أي نصف الصافي من ايرادهم من الاطيان الداخلة في التزامهم، ومعنى ذلك مقاسمة المتلزمين في معايشهم.

كانت هذه المحدثات سببا في تبرم جمهور الملاك ونظار الاوقاف والمستحقين والمتلزمين، وهم طبقة كبيرة من السكان، ومنهم المحتاجون الذين لا يرتزقون الا من غلة الاوقاف الموقوفة عليهم من اسلافهم، أو من ايراد الاطيان الداخلة في التزامهم، فلا جرم في ان تثير هذه المغارم في نفوسهم عاصفة من الاستياء والسخط وان يجأروا بالشكوى الى الشيوخ الذين هم ملجأ المظلومين في ذلك العصر.

وكان مفهوما ان تكون هذه المحدثات سببا لاشتداد الخلاف بين محمد علي باشا والسيد عمر مكرم، لأنه لم يكن منتظرا ان يقره عليها، وكان له من النفوذ على الجماهير ما يجعل احتجاجة بمثابة احراج لمركز الحكومة. فاعتراض السيد عمر مكرم واحتجاجه كان أمرا ذا بال، وله من العواقب في اثارة الشعب مالا يغرب عن البال، وقد حدث ما كان منتظرا، اجتماع الناقمون على المحدثات الجديدة، واتفقوا على ان يقصدوا الى الازهر لرفع ظلامتهم الى الشيوخ والعلماء، وحدث من قبيل المصادفات ان ولاة الشرطة اعتقلوا طالبا من طلاب العلم في الازهر يمت بصلة قربى الى احد علمائه السيد حسن البقلي، فتشفع العلماء في اطلاق سراحه ، فلم يقبلوا وأرسلوه الى القلعة، فجاءت هذه الحادثة سببا جديدا لاثارة الخواطر فوق ثورانها بسبب الضرائب الجديدة.

ففي يوم السبت 17 جمادي الأولى سنة 1224 (30 يونية سنة 1809) بينما الشيوخ حاضرون بالأزهر كعادتهم لقراءة الدروس أقبل الناس أفواجا من رجال ونساء ، ومنهم أهل الطالب المسجون يصرخون ويستغيثون، وأبطلوا الدروس، فاجتماع الشيوخ بالقبلة، وأرسلوا الى السيد عمر مكرم فحضر اليهم واخذوا يتداولون الراي فيما يجب عمله، وتناسو مؤقتا منافساتهم الشخصية، واتفقوا على الدفاع عن مصالح الجمهور، ثم انفض الاجتماع وذهبوا الى بيوتهم على ان يجتمعوا ثانيا.

واستأنفوا الاجتماع في العد وتداولوا الامر، وأجمعوا الرأي على الاعتراض على المحادثات الجديدة من المظالم والمغارم عامة، وأهمها فرض الضريبة على الاطيان الموقوفة وأطيان الأوسية، ومقاسمة الملتزمين في ايرادهم، وضريبة التمغة على المنسوجات والمصوغات والأواني، واعتقال الطالب الازهري بغير ذنب جناه، وحبسه بالقلعة، واتفقوا على ان يرفعوا هذا الاحتجاج كتابة الى محمد علي باشا.

توافق الشيوخ في هذا الاجتماع على الاخلاص والتضامن، وتعاهدوا على الاتحاد وترك المنافرة، كما يقول الجبرتي، ولكن هذا العهد لم يكن صادرا عن نية صادقة، فان حساد السيد عمر مكرم كانوا مضمرين في انفسهم ان يخذلوه اذا حزب الامر واشتدت الازمة، وان يدعوه وجها لوجه امام محمد علي.

وظاهر من رواية الجبرتي انهم اتفقوا رايا على الاكتفاء بتقديم العريضة بمثابة احتجاج على تصرفات الباشا وعدم الذهاب اليه خيفة ان يؤثر فيهم اذا اجتمع بهم، أو تلين قناتهم اذا صاروا بحضرته، على أن محمد علي اعتزم ان يفرق جمعهم باستدعائهم فيختفلوا في وجوب الذهاب اليه أو الامتناع عن مقابلته، فتقع الفرقة بينهم، وتظهر مكنونات ضمائرهم، وهنالك يضرب الضربة التي اتفق مع المهدي والدواخلي على ايقاعها بالسيد عمر مكرم.

الوقيعة بالسيد عمر مكرم

وتفضيل ذلك ان محمد علي اوفد سكرتيره (ديوان أفندي) لمقابلة الشيوخ وتعرف نياتهم، أوجس نبضهم كما يقولون ، فوجد منهم في اليوم الاول اتحادا في الرأي، وأصروا على عدم مقابلته والاكتفاء بالعرض الذي قدموه، وفي ذلك معنى الغضب والاحتجاج الذي يخضى محمد علي عواقبه في نفوس الجمهور.

قال الجبرتي في وصف هذه المقابلة: "حضر ديوان أفندي وقال ان الباشا يسلم عليكم، ويسأل عن مطلوباتكم ، فعرفوه بما سطروه اجمالا، وبينوه له تفصيلا، فقال ينبغي ذهابكم اليه، وتخاطبونه مشافهة بما تريدون، وهولا يخالف اوامركم ولا يرد شفاعتكم، وانما القصد ان تلاطفوه في الخطاب لانه شاب مغرور جاهل وظالم غشوم ولا تقبل نفسه التحكم، وربما حمله غروره على حصول ضرر بكم وعدم انفاذ الغرض، فقالوا بلسان واحد لا نذهب اليه ابدا ما دام يفعل هذه الفعال، فان رجع عنها وامتنع عن احداث البدع والمظالم عن خلق الله رجعنا اليه وترددنا عليه كما كنا في السابق، فاننا بايعناه على العدل لا على الظلم والجور، فقال لهم ديوان افندي وانا قصدي ان تخاطبوه مشافهمة ويحصل انفاذ الغرض، فقالوا لا تنجتمع عيه ابدا ولا نثير فتنة، بل نلزم بيوتنا، ونقتصر على حالنا ونصبر على تقدير الله بنا وبغيرنا، واخذ ديوان افندي (العرضحال) ووعدهم برد الجواب".

 

هذا ما ذكره الجبرتي عن اجتماع المشايخ بسكرتير محمد علي باشا ، ومنه يتبين انهم كانوا في بادي الامر بدا واحدة في الاعتراض على المظالم والضرائب الجديدة وان ما سماه الجبرتي "عرضحالا" كان بمثابة احتجاج شديد له خطره وعواقبه، وكثير من الثورات يكون منشئوها العرائض او العرضحالات، وقد كان هذا العرض مقرونا بالامتناع عن مقابلة الباشة ورفض المباحثة معه، وهذا أمر خطير في ذاته وفي نتائجه، وليس هذا الامتناع مقصورا كما يقول الشيوخ على ان "يلزموا بيوتهم ويقتصروا على حالهم، ويصبروا على تقدير الله بهم وبغيرهم" بل هو اعلان للجمهور بأنهم غضبوا على من أجلسوه منذ سنوات على كرسي الحكم، ومصارحة لهم بأنه خالف الشروط التي بايعوه عليها، ففي هذا العمل السلبي تهديد صريح لمحمد علي بان يجيب طلباتهم وألا فإنهم لا يجتمعون عليه ابدا".

وبديهي أن محمد علي باشا أدرك بثاقب نظره ما ينطوي تحت هذه المقاطعة من المعاني، وما يترتب عليها من النتائج ، فبادر أولا الى الافراج عن الطالب الأزهري قريب السيد حسن البقي الذي كان محبوسا، ليفهم الجمهور أن لا ظلم ولا حبس ولا تعذيب، ثم اخذ يجهد الفكر لفصم عرا تلك الزعامة الشعبية التي كانت قلق باله وتقض مضاجعه، ومضت أربعة أيام على اجتماع الشيوخ دون أن يبعث اليهم محمد علي بالجواب، والظاهر أنه قضى هذه الايام في استمالة بعض الشيوخ اليه والائتمار بالسيد عمر مكرم.

 

وفي ذلك يقول الجبرتي: "الى أن بدت الوحشة بين الباشا والسيد عمر مكرم فتولى كبير السعي عليه سرا هو وباقي الجماعة حسدا وطمعا ليخلص لهم الامر دونه حتى أوقعوا به".

 

وكان بدء هذه المؤامرة ان اجتمع الشيخ محمد المهدي والشيخ محمد الدواخلي وناظر المهمات (محمد أفندي طبل)، واتفقوا معا على الخطة التي يتبعونها لانفاذ المؤامرة، وبعد تفرقهم ذهب المهدي والدواخلي الى السيد عمر وأخذا يدافعان عن محمد علي باشا، ويبرئانه مما نسب اليه، وكان هذا الدفاع مقدمة انقلابهم على السيد عمر، قال الجبرتي في هذا الصدد: "اجتمع الشيخ المهدي والشيخ الدواخلي عند محمد أفندي طبل ناظر المهمات، وثلاثمائة في نفوسهم للسيد عمر ما فيها، وتناجو مع بعضهم، ثم انتقلوا في عصرها وتفرقوا، وحضر المهدي والدواخلي الى السيد عمر، واخبراهم ان محمد افندي المذكور ذكر لهم ان الباشا لم يطلب مال الاوسية ولا الرزق (الأطيان الموقوفة) ، وقد كذب من نقل ذلك، وقال أنه يقول اني لا أخالف أوامر المشايخ، وعند اجتماعهم به ومواجهته يحصل كل المراد".

فالمهدي والدواخلي دافعا اذن عن محمد علي، ونقضا الاتفاق الذي تم بين الشيوخ اجتماعهم السابق، ومضمونه ألا يذهبوا الى محمد علي باشا الا اذا أجاب مطالبهم، لأن كلامهم الجديد للسيد عمر يدل على قبولهم الاجتماع بالباشا وتحبيذهم هذا الاجتماع.

 

وقد فطن السيد عمر الى سر الخطة الجديدة التي اتبعها المهدي والدواهلي، اما هو فقد اصر على عهده بعد ان الزم الشيخين الحجة، اذ قال لهما: "اما انكاره طلب مال الرزق والاوسية فها هي اوراق المباشرين عندي لبعض الملتزمين مشتملة على طلب الفرضة (الضريبة) ونصف الفايض (أي نصف ايراد الملتزمين) ومال الاوسية والرزق، واما الذهاب اليه فلا اذهب اليه ابدا، وان كنتم تنقضون الايمان والعهود الذي وقع بيننا فالراي لكم".

 

وانقض المجلس وعلم محمد علي باشا بما دار فيه، فادرك ان السيد عمر مكرم لا تلين قناته، وانه مصمم على المقاومة، فاخذ كما يقول الجبرتي يدبر تفريق جمع الشيوخ، "وخذلان السيد عمر لما في نفسه منه من عدم انفاذ اغراضه، ومعارضته له في غالب الامور، ويخشى صولته، ويعلم ان الرعية والعامة تحت امره، ان شاء جمعهم، وان شاء فرقهم، وهو الذي قام بنصره، وساعده، واعانه، وجمع الخاصة والعامة حتى ملكه الاقليم، ويرى انه ان شاء فعل نقيض ذلك، فطفق يجمع اليه بعض افراد من اصحاب المظاهر ويختلي معه ويضحك اليه، فيغتر بذلك، ويرى انه صار من المقربين وسيكون له شان ان وافق ونصح، فيفرغ له جراب حقده ويرشده بقدر اجتهاده لما فيه من المعاونة".

 

بهذه العبارة وصف الجبرتي موقف محمد علي باشا ازاء السيد عمر مكرم وصفا دقيقا، فمحمد علي كان يخشى نفوذ السيد عمر ويتوجس من اثارته الجمهور عليه واقتلاعه من مركزه، كما اقتلع خورشيد باشا من قبل، ولذلك اخذ يقرب اليه بعض اصحاب المظاهر وطلاب المنافع وبعدهم ويمنيهم ليفصلهم عن السيد عمر.

ورواية الجبرتي في مجموعها تتفق ورواية المسيو مانجان (صديق محمد علي باشا) في كتابه، فقد ذكر ان السيد عمر مكرم لما حضر اليه سكرتير الباشا وعبد الله بكتاش ( ترجمانه) يوم 12 يونيه سنة 1809، وكان العلماء مجتمعين عنده، طلبا اليه ان يذهب لمقابلة الباشا، فرفض الذهاب، واقسم ألا يرى محمد علي باشا الا اذا عدل عن مشروعه في فرض الضرائب الجديدة، وانتقد سياسته انتقادا شديدا قائلا: "واذا اصر البااش على مظالمه فاننا نكتب الى الباب العالي، وانتقد سياسته انتقادا شديدا قائلا: "واذا اصر الباشا على مظالمه فاننا نكتب الى الباب العالي، ونثير عليه الشعب، وانزله عن كرسيه كما اجلسته عليه".

 

فعمر مكرم كان معتمدا على منزلته عند الشعب، وعلى سابقة يده على محمد علي، اما منزلته الشعبية فكانت تزداد قوة على مدى الايام، لما تبينه الناس من بقائه على عهده، واستمساكه بالمهمة التي اخذها على عاتقه، وهي ان يكون ترجمان الشعب الصادق ورسوله الامين في مراقبة ولاذة الامور، ورفع المظالم عن الجمهور، فكانت مكانته تعظم كل يوم بما كان يسديه من الخير اليهم، يدلك على عظم مكانته الاجتماعية انه اقام في ذلك الحين مهرجانا لختان حفيده في شهر ربيع الاول سنة 1224 (ابريل سنة 1809) ، فكان من اعظم ما رأته القاهرة روعة وجمالا، احتشدت فيه الجموع من كافة الطبقات، واكتريث الاماكن لمشاهدته، قال الجبرتي في وصفه:

"واستهل شهر ربيع الاول سنة 1224، وفيه شرع السيد عمر مكرم نقيب الاشراف في عمل مهم لختان ابن ابنته، ودعا الباشا والاعيان، وارسلوا اليه الهدايا والتعابي، وعمل له زفة يوم الاثنين سادس عشر، مشى فيها ارباب الحرف والعربات والملاعيب وجمعيات وعصب صعايدة وخلافهم من اهالي بولاق والكفور والحسينية وغيرها من جميع الاصناف وطبول وزمور وجموع كثيرة، فكان يوما مشهودا اكتريت فيه الاماكن للفرجة، وكان هذا الفرح هو آخر طنطنة السيد عمر بمصر، فانه حصل له عقب ذلك ما سيتلي عليك قريبا من النفي والخروج من مصر".


 

تدبير المؤامرة

علمت مما تقدم ان الشيخين المهدي والدواخلي كانا قوام الوقيعة بالسيد عمر مكرم وانهما اخفقا في اقناعه بالعدول عن موقف الصلابة والتشدد الذي وقفه ازاء محمد علي باشا. ويقول الجبرتي ان المهدي والدواخلي اعادا الكرة لاقناع السيد عمر بالعدول عن مقاطعة الباشا، فذهبا اليه ثانيا صحبة سكرتيره وعبدالله بكتاش ترجمانه، وطال بينهم الكلام والمعالجة، ولكن السيد عمر اصر على الامتناع عن مقابلة الباشا، ثم طلبا الى الشيخ محمد الامير ان يذهب معهما لمقابلته، فاعتذر بوعكه، والظاهر انه ابى ان يشترك معهما في المؤامرة على السيد عمر فرفض الذهاب معهما.

 

وعندئذ اظهر المهدي والدواخلي مكنون نياتهما، فذهبا وحدهما الى محمد علي باشا بالقلعة، واجتمعا به وهونا له من امر السيد عمر لكي يطمئن على مركزه اذا اراد ان يبطش به، قال الجبرتي ما خلاصته، ان الباشا قال في كلامه لهما: "انا لا أرد شفاعتكم ، ولا اقطع رجاءكم، والواجب عليكم اذا رايتم مني انحرافا ان تنصحوني، ثم اخذ يلومه السيد عمر على تخلفه وتعنته، ويثني على الباقين (أي الذين انفصلوا عنه)، وقال عنه انه في كل وقت يعاندني ويبطل احكامي، ويخوفني بقيام الجمهور، فقال الشيخ المهدي (وهنا بيت القصيد): هو ليس الا بنا، واذا خلا عنا فلا يسوي بشئ، ان هو الا صاحب حرفة، أو جابي وقف يجمع الايراد ويصرفه على المستحقين، قال الجبرتي: "فعند ذلك تبين قصد الباشا لهم (أي البطش بالسيد عمر) ووافق ذلك ما في نفوسهم من الحقد للسيد عمر، ثم تباحثوا معه حصة، وقاموا منصرفين مذبذبين، ومظهرين خلاف كامن في نفوسهم من الحقد وحظوظ النفس، غير مفكرين في العواقب".

 

انتهى اذا هذا الاجتماع بالاتفاق بين محمد علي والمهدي والدواخلي على الوقيعة بالسيد عمر مكرم، وكان الدواخلي حاضر الاجتماع اصالة عن نفسه ونيابة عن الشيخ عبد الله الشرقاوي، أي ان الشرقاوي كان شريكا في المؤامرة، ولكنه لم يشأ أن يظهر فيها بشخصه تفاديا من اللوم وسوء الظن به، وترك المهدي والدواخلي ان يحكما فصولها، ولم يكن المهدي والدواخلي والشرقاوي في موقفهم عاملين على هدم السيد عمر فحسب، بل كانوا في الواقع يهدمون انفسهم وزملاءهم، وكل عضو في تلك الزعامة الشعبية التي قامت بدور خطير في تاريخ مصر القومي، وقد فاتهم وهم تحت تأثير الحقد والحسد "وحظوظ النفس" أن يقدروا عواقب عملهم، فصدق فيهم قول الجبرتي انهم كانوا "غير مفكرين في العواقب".

 

ذهب المهدي والدواخلي ثانية الى السيد عمر ليقضيا اليه بما شاءا من حديث الباشا، وكان غرضها تبرير موقف محمد علي، واراد ان يدخلا الرهبة في نفس السيد عمر حتى يذعن او يسجلا عليه التمرد والعصيان اذا اصر على موقفه، قال الجبرتي: "وحضروا عند السيد عمر وهو ممتلئ بالغيظ مما حصل من الشذوذ ونقض العهد، فأخبروه ان الباشا لم يحصل منه خلاف، وانه قال انا لا ارد شفاعتكم ولكن نفسي لا تقبل التحكم، والواجب عليكم اذا رأيتموني فعلت شيئا مخالفا ان تنصحوني وتشفعوا، فأنا لا أردكم ولا أمتنع عن قبول نصحكم، وأما ما تفعلونه من التشنيع والاجتماع بالازهر فهذا لا يناسب منكم، وكأنكم تخوفنني بهذا الاجتماع وتهييج الشرور وقيام الرعية كما كنتم تفعلون في زمان المماليك، فأنا لا أفزع من ذلك. وان حصل من الرعية امر ما فليس لهم عندي الا السيف والانتقام، فقلنا له: هذا لا يكون، ونحن لا نحب ثوران الفتن، وانما اجتماعنا عمن انتبذ لهذا الامر، ومن ابتدأ بالخلف، فغالطناه، وانه وعدنا بابطال الدمغة، وتخفيف الفايض الى الربع بعد النصف، وانكر طلب ضريبة المال الميري عن اطيان الاوسية والرزق من اقليم البحيرة".

 

هذا ما ذكره الجبرتي، ومنه يتبين ان المهدي والدواخلي اراد الافضاء الى السيد عمر بأن محمد علي باشا يعتبر عمل الشيوخ حركة ثورية يتوعد بقمعها بالسيف والانتقام، وأنه سأل عن المدبر لها، فغالطاه في الجواب أي لم يتهما السيد عمر بزعاماتها، على أنهما لم يصدقا السيد عمر القول، فان حديثهما مع محمد علي كان يدور حول تحريضه على السيد عمر والتهوين من أمره وتصغير شأنه حتى وصفاه بأنه (صاحب حرفة) أي نقيب الاشراف، ولعمري ان السيد عمر مكرم لم ينل ما نال من المكانة لتولية نقابة الاشراف، بل ان مكانته ترجع الى شخصيته البارزة ونفسه العالية، وشجاعته ونزاهته، وترفعه عن الدنايا وسفاسف الامور، ولو لم يكن نقيبا للاشراف لما نقصت مكانته غما صارت اليه من العظمة ورفعة الشأن.

 

واستأنف محمد علي باشا السعي ليكسب السيد عمر ويستميله اليه بالحسنى، وكأن الشيوخ وسطاءه في هذا السعي، ففي أول جمادى الثانية سنة 1224 اجتمع الشيوخ عند السيد عمر في داره، وأعادوا الكرة لاقناعه بمقابلة الباشا "فخلف السيد عمر انه لا يطلع اليه، ولا يجتمع به، ولا يرى له وجها الا اذا ابطل هذه الأحدوثات، وقال ان جميع الناس يتهمونني معه ويزعمون انه لا يتجارى على شي يفعله الا باتفاقي معه، ويكفي ما مضى، ومهما تقادم يتزايد في الظلم والجور".

وعبثا حاول الشيوخ اقناعه، فأصر وأبى، فاستقر رأيهم أن يذهبوا دون السيد عمر لمقابلة الباشا، وأرسلوا في طلب الشيخ محمد الأمير لهذا الغرض، فاعتذر بوعكه، ومعنى ذلك انه رفض الذهاب معهم، وانه كان واقفا على ما دبره زملاءه للسيد عمر فأبى أن يشترك في أدوار هذه المأساة، فاتفقوا على ذهاب الشرقاوي والمهدي والدواخلي والفيومي، وذلك على خلاف غرض السيد عمر ، وقد ظن انهم يمتنعون لامتناعه للعهد السابق والأيمان، ولكن لم يمنعهم العهد ولم تمنعهم الأيمان عن مقابلة الباشا، فذهبوا اليه وتكلموا معه، وقد فهم كل منهم لغة الآخر الباطنية، ثم ذاكروه في امر الاتاوات التي فرضها، وكانت موضع شكايات الناس وسخطهم، فأخبرهم انه يرفع ضريبة الدمغة، وكذلك يرفع الضريبة عن الاطيان الاوسية والرزق (الأطيان الموقوفة) ويكتفي بأخذ ربع فايض ايراد الملتزمين بدلا من النصف، وانصرفوا من عنده وذهبوا الى السيد عمر ليعرضوا عليه ما قرره الباشا، لعله يرضى بذلك، فقال لهم وهل أعجبكم ذلك، فلم يجيبوا جوابا صريحا، فقال انه أرسل يخبرني بتقرير ريع المال الفايض فلم أرض وأبيت الا أن يرفعه كله لأنه في العام الماضي لما طلب تقرير الريع قلت له هذه تصير سنة متبعة، فخلف أنها لا تكون بعد هذا العام، وانما طلبها لضرورة النفقة على العسكر، وان طلبها في المستقبل يكون ملعونا ومطرودا من رحمة الله، وعاهدني على ذلك، وهذا في علمكم ، كما لا يخفى عليكم، قالوا نعم، قال وأما قوله انه رفع طلب المال عن الأوسية والرزق فلا أصل لذلك، وها هي أوراق البحيرة وجهوا بها الطب، فقالوا اننا ذكرنا له ذلك فأنكر، وحاجبناه بأوراق الطب، فقال ان السبب في طل ذلك من اقليم البحيرة خاصة ان المساحين لما نزلوا للكشف على اراضي الري والشراقي ليقرروا عليها فرضة (ضريبة) الأطيان حصل منهم الغش والتدليس فاذا كان في أرض البلدة خمسمائة فدان ري جعلوها مائة وسموا الباقي رزقا وأوسية لاعفائها من المال فقررت ذلك عقوبة لهم في نظير تدليسهم وخيانتهم، فقال السيد عمر: وهل ذلك أمر واجب فعله، أليس هو مجرد جور وظلم أحدثه في العام الماضي وهي فريضة الأطيان التي ادعى لزومها لاتمام نفقات العسكر، وحلف أن لا يعود لمثلها، وقد عاد وزاد. وأنتم توافقونه وتسايرونه، ولا تصدونه ولا تصدعونه بكلمة، وأنا وحدي مخالفا وشاذا، ولامهم السيد عمر على نقضهم العهد والإيمان، وانفض المجلس (وتفرقت الآراء، وراج سوق النفاق، وتحركت حفائظ الحقد والحسد، وكثر سعيهد وتناجيهم بالليل والنهار، والباشا يراسل السيد عمر ويطلبه للحضور اليه والاجتماع به ويعده بانجاز ما يشير عليه، وارسل اليه كتخدا (وكيله) ليترفق به، وذكر له ان الباشا يرتب له كيسا (خمسمائة قرش) في كل يوم ويعطيه فورا ثلثمائة كيس خلاف ذلك، فلم يقبل".

 

 

اشتداد الأزمة

وفي غضون ذلك اخذ رسل السوء يزيدون هوة الخلف اتساعا بين محمد علي

والسيد عمر مكرم، وينقلون الى الباشا ما يقوله السيد عمر في مجالسه، ويزيدون عليه ما سولت لهم اغراضهم، والسيد مصر ممتنع عن مقابلته، وأحيط بيته بالجواسيس لمراقبة حركاته وسكناته، واحصاء زواره، وحدث في خلال ذلك ان حرر محمد علي باشا بيانا برسم الحكومة التركية، يذكر فيه ما انفقه في مصر من الخارج، وقدره نحو اربعة آلاف كيس وانها صرفت في مهمات تختص بشئون البلاد، فمنها ما صرف في سد ترعة الفرعونية، وما صرف في الحملات العسكرية لمحاربة المماليك، وما أنفقه على عمارة القلعة وترميم المجراة وحفر الترع، واوضح في بيانه ان الميري قد نقص بسبب الشراقي، وارسل البيان الى السيد عمر مكرم لاقراره والتوقيع عليه، فامتنع واظهر الشك في محتوياته، وقال للرسول الذي حمله اليه: أما ما صرفه على سد ترعة الفرعونية فان الذي جمعه وجباه من البلاد يزيد على ما صرفه أضعافا كثيرة، وأما غير ذلك فكله كذب لا أصل له، وان وجد من يحاسبه على ما أخذه من القطر المصري من الفرض والمظالم لما وسعته الدفتار"، وكان جوابا جافا شديد اللهجة، فلما عاد الرسول الى محمد علي اشتد حنقه عليه، وطلبه من جديد لمقابلته، فأصر الامتناع، فلما كثر التراسل بينهما في هذا الشأن قال السيد عمر : "ان كان ولابد فاجتماع به في بيت السادات، واما طلوعي اليه فلا يكون"، فلما بلغ هذا الجواب مسامع محمد علي باشا ازداد حنقه، وكبر عليه ان يشترط السيد عمر مكرم ان تكون المقابلة بينهما في دار غير مقر حكمه، وقال: "هل بلغ له ان يزدريني ويأمرني بالنزول من محمل حكمي الى بيوت الناس"، وصمم على البطش به.

 

ومع بلوغ الازمة الى هذا الحد فان محمد علي باشا كان يحسب حسابا كبيرا لمكانة السيد عمر في الجمهور، فلم يفكر في ان يكون العقاب من نوع ما كان مألوفا في ذلك العصر من القتل أو السجن، بل اعتزم ان يعزله من نقابة الاشراف وينفيه الى دمياط ليبعده عن القاهرة حيث له من النفوذ ما يجعل أهلها رهن اشارة تصدر منه، وراى بثاقب نظره ان يكون عقابه متفقا (ظاهرا) مع الاوضاع الشرعية المألوفة وقتئذ، بأن يدعوه الى الاحتكام فيما شجر بينهما من الخلاف الى القاضي والشيوخ، وكان مطمئنا من قبل الى حكمهم، واثقا من تحيزهم، وبهذه الوسيلة يضع السيد عمر في مركز حرج، فاذا هو اجاب الدعوة وقبل حكم القاضي والشيوخ خرج من التقاضي مغلوبا، وحينئذ يكون لمحمد علي باشا ان ينفيه جزاء خروجه بدون حق على ولي الامر، وان لم يحضر كان امتناعه في ذاته خروجا ايضا على السلطة الشرعية، فالمؤامرة كانت اذن محكمة التدبير، ولولا نقض الشيوخ للعهود والمواثيق لما استطاع محمد علي باشا ان ينال من خصمه منالا.

 

نفي عمر مكرم الى دمياط

فلما اصبح يوم الاربعاء 27 جمادى الثانية سنة 1224 (9 أغسطس سنة 1809) نزل محمد علي باشا من القلعة وذهب الى بيت ابنه ابراهيم باشا حاليا  بالأزبكية، وطلب القاضي والمشايخ، وارسل الى السيد عمر رسولا من طرفه ورسولا من طرف القاضي يستدعيانه للحضور ليحتكم واياه لديهم، فأدرك السيد عمر أن المؤامرة قد وصلت الى دورها الاخير، ورأى من العبث أن يذهب الى محكمة يعلم من رأي اعضائها وتواطئهم مع خصمه ما يجعل الاحتكام الهيم عبثا لا يجدي، فآثر الامتناع عن اجابة الدعوة، واعتذر بمرضه ، فلم يكن من محمد علي باشا الا ان امر في حضرة القاضي والشيوخ بعزل السيد عمر مكرم من نقابة الاشراف، ونفيه من مصر، وان ينفذ الامر فورا، وخلع على السيد محمد السادات خلعة نقابة الاشراف.

 

وقد رأى الشيوخ ان يراءوا بالعطف على السيد عمر، فتشفعوا عند الباشا ان يمهله ثلاثة أيام، حتى يستعد للرحيل، فأجبهم الى ذلك، ثم سألوه أن ياذن له بالذهاب الى أسيوط (مسقط رأسه) لتكون منفى له، فرفض محمد علي اجابة هذا الطلب، وخيره بين النفي الى دمياط أو الاسكندرية، وانفض المجلس على ذلك.

أما السيد عمر فقد قابل هذه المحنة بالثبات ورباطة الجأش، وقال في هذا الصدد، "أما منصب النقابة فاني راغب عنه زاهد فيه، وليس فيه الا التعب، واما النفي فهو غاية مطلوبي، ثم طلب ان يكون النفي الى جهة ليست تحت حكم محمد علي باشا اذا لم يأذن له بالذهاب الى أسيوط، واختار الطور أو درنه (بطرابلس الغرب) ، فعرض هذا الطلب على الباشا فرفضه، وأصر على نفيه الى دمياط، فأخذ السيد عمر يستعد للسفر، ووكل عنه السيد المحروقي كبير تجار القاهرة وعهد اليه ادارة أملاكه ورعاية أهل بيته.

 

رحيل السيد عمر مكرم الى منفاه

كان رحيل السيد عمر الى دمياط مشهدا مؤثرا، فان الجمهور قد ادرك عظم النكبة وشعر الناس بوحشة كبيرة لنفي الرجل الذي كان ملاذهم وملجأهم في رفع المظالم، فاجتمعوا لواداعه واظههار عواطفهم نحوه، وكانت سيما الحزن والكأبة بادية على جمهور المودعين.

 

قال الجبرتي في هذا الصدد: "واستهل شهر رجب سنة 1224 بيوم الاحد وفيه اجتمع المودعون للسيد عمر، ثم حضر محمد كتخداي الالفي (الذي عهد اليه اصطحابة الى منفاه) فعند وصوله قام السيد عمر وركب في الحال وخرج صحبته، وشيعه الكثيرون من المتعممين وغيرهم، وهم يتباكون حوله، حزنا على فراقه، واغتم الناس لسفره وخروجه من مصر، لأنه كان ركنا وملجأ ومقصدا للناس لتعصبه لنصرة الحق، فسار الى بولاق، ونزل في المركب، فسافر من ليلته بأتباعه وخدمه الذين يحتاج اليهم الى دمياط".

 

موقف الشيوخ بعد نفي زعيمهم

لم يتورع الشيخ محمد المهدي عن اظهار مكنونات ضميره في الدور الاخير من ادوار المأساة، ففي صبيحة الليلة التي ارتحل فيها السيد عمر الى منفاه ذهب الى محمد علي باشا يلتمس منه المكافأ على تدبير المؤامرة، فطلب وظائف السيد عمر فأنعم عليه الباشا بنظر أوقاف الامام الشافعي ونظر وقف سنان باشا ببولاق، وطلب كذلك ، ما كان منكسرا له من راتبه من الغلال نقدا أو عينا مدة أربع سنوات، فأمر محمد علي بدفعها اليه نقدا من خزانة الحكومة وقدرها خمسة وعشرون كيسا "وذلك كما يقولي الجبرتي – في نظير اجتهاده في خيانة السيد عمر حتى أوقعوا به ما ذكر".

 

ولم يكتف الشيوخ بالتواطؤ مع محمد علي باشا على الوقيعة بالسيد عمر، بل أخذوا بعد نفيه يعملون على النيل من سمعته، ولعلهم رأوا مظاهر حزب الناس على فراقه، وعطفهم عليه، فأرادوا أن يحاربونه بسلاح الافتراء والتشهير، ليسوغوا فعلتهم ، فكتبوا عرضا لارساله الى الاستانة يبررون فيه عزل السيد عمر من نقابة الاشراف ونفيه، نسبوا اليه فيه، انه ادخل في دفتر الاشراف اسماء اشخاص ممن اسلموا من الاقباط واليهود، وانه قبض من محمد بك الالفي مبلغا من المال ليمكنه من حكم مصر في ايام قيام الجمهور على احمد خورشيد باشا الوالي السابق، وانه كان متواطئا مع الامراء المماليك حين شرعوا في مهاجمة القاهرة يوم الاحتفال بوفاء النيل سنة 1805، وانه اراد اخيرا احداث فتنة بين الجمهور ليخلع الباشا ويولي خلافه.

 

وقد نمق الشيوخ هذا البيان، وطافوا به على زملائهم ليوقعوا عليه، فامتنع كثير منهم عن التوقيع ، وبرءوا السيد عمر مما رمي به وقالوا: "هذا كلام لا أصل له"، وحصلت مشادة بين رؤساء الشيوخ المدبرين لهذا المنشور وبين الممتنعين عن التوقيع ، ثم غيروا صورة المنشور، وخففوا لهجته ليحملوا زملاءهم على توقيعه فامتنع كذلك بعضهم، وكان اشدهم اصرارا على استنكاره والامتناع عن توقيعه السيد احمد الطحطاوي مفتي الحنفية، وكان من العلماء الصالحين المتنزهين عن المطامع الدنيوية، فسخط الشيوخ عليه وتهددوه بعزله من منصبه، فلم يعبأ بهم، فعزلوه، وولوا بدله الشيخ حسين المنصوري، وخلع عليه محمد علي باشا خلعة الافتاء ، فلم يكترث السيد الطحطاوي لهذا الامر، ولم يأبه له، واعاد الى الشيخ السادات الخلعة التي خلعها عليه من قبل حينما تولى الافتاء، فاستاء السادات من هذا العمل، وعده اهانة كبرى له، واستمر السيد الطحطاوي يقبح عمل الشيوخ. واعتزلهم في داره "وهم يبالغون في ذمه والحط منه لكونه لم يوافقهم على شهادة الزور، كما يقول الجبرتي، فكان عمل الطحطاوي حجة بالغة على نفاق الشيوخ وريائهم.

 

خلا الجو لحساد السيد عمر مكرم والمؤتمرين به، ولكنهم في الواقع قد جنوا على أنفسهم وعلى مكانتهم ونفوذهم، فان المؤامرة التي دبروها قد أسقطت منزلتهم في نظر الجمهور وفي نظر محمد علي باشا، فالجمهور رأى في عملهم معنى الغدر والخيانة، ومحمد علي رأى فيه الضعة وصغار النفس، فلم يبق لهم عنده ذلك الشأن الذي كان لهم من قبل، ولم يعد يعبأ برأيهم، وسقطت تلك الزعامة الشعبية التي كانت لها المكانة العظمى القول والفصل في تطور الحوادث مدى عشر سنوات متعاقبة، وزالت عنهم تلك الهيبة التي اكتسبوها بجهادهم واخلاصهم وتضامنهم، وأضاعوا بتحاسدهم وتخاذلهم، ودالت دولتهم، ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة، وحقت عليهم الآية الشريفة "ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

 

وقد سجل عليهم الجبرتي رأيه فيهم بقوله: "ان الحامل لهم على ذلك كله الحظوظ النفسانية والحسد، مع أن السيد عمر كان ظلا ظليلا عليهم وعلى أهل البلد، يدافع ويرافع عنهم وعن غيرهم، ولم تقم لهم بعد خروجه من مصر راية، ولم يزالوا بعده في انحطاط وانخفاض"، وقال في موضع آخر: "وقد زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس، وانهمكوا في الامور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية".

 

عمر مكرم في منفاه

اما السيد عمر مكرم فقد عاش في دمياط تحت المراقبة "والحرس ملازمون له" الى أن تشفع له قاضي قضاة مصر صديق افندي لدى محمد علي باشا، فأذن له بالانتقال الى طنطا، وذلك في ربيع الأول سنة 1227، فكأنه قضى بدمياط نحو أربع سنوات، وبقى بطنطا الى ربيع الاول سنة 1234 (ديسمبر سنة 1818) اذ طلب الاذن له ان يؤدي فريضة الحج، وكان محمد علي قد بلغ قمة المجد والسلطة، وقهر الوهابيين، وذاع صيته في الخافقين، فتذكر المنفى العظيم الذي كان له الفضل أكبر الفضل في اجلاسه على عرش مصر، فتلطف بقبول طلبه، واذن له بالذهاب الى القاهرة، وان يقيم بداره الى أوان الحج، وذكر صديقه القديم بالخير، وقال لجلسائه: "انا لم اتركه في الغرب هذه المدة الا خوفا من الفتنة، والآن لم يبق شي من ذلك، فانه ابى، وبيني وبينه مالا أنساه من المحبة والمعروف".

 

كتاب محمد علي الى السيد عمر مكرم

وقد بعث اليه بكتاب رقيق يبلغه اجابة طلبه، والكتاب يحتوي ارق عبارات الاحترام والتبجيل، ويدل على مبلغ ماله عنده من المكانة الرفعية قال فيه:

"مظهر الشمائل سنيها، حميد الشئون وسميها، سلالة بيت المجد الأكرم، والدنا السيد عمر مكرم ، دام شأنه.

"أما بعد فقد ورد الكتاب اللطيف، من الجناب الشريف، تهنئة بما أنعم الله علينا، وفرحا بمواهب تأييده لنا، فكان لذلك مزيدا في السرور، ومستديما لحمد الشكور، ومجبة لثناكم، واعلانا بنيل مناكم، جزيتم حسن الثناء، مع كمال الوقار ونيل المنى، هذا وقد بلغنا نجلكم عن طلبكم الاذن في الحج الى البيت الحرام، وزيارة روضته عليه الصلاة والسلام ، للرغبة في ذلك، والترجي لما هنالك، وقد أذناكم في هذا المرام، تقربا لذي الجلال والاكرام، ورجاء لدعواتكم بتلك المشاعر العظام، فلا تدعوا الابتهال، ولا الدعاء لنا بالقال والحال، كما هو الظن في الطاهرين، والمأمول من الاصفياء المقبولين، والواصل لكم جواب منا خطابا الى كتخدائنا، ولكم الاجلال والاحترام، مع جزيل الثناء والسلام".

 

عودة عمر مكرم الى القاهرة ثم نفيه ثانيا

وبعث الباشا بالخطابين الى السيد عمر صحبة حفيده السيد صالح، وارسل الى كتخدائه يبلغه بالأمر "وأشيع خبر مقدمه فكان الناس بين مصدق ومكذب" حتى وصل الى بولاق يوم السبت 12 ربيع الأول سنة 1234 (9 يناير 1819) ، فركب من هناك وتوجه لزيارة الامام الشافعي، ثم ذهب الى القلعة وقابل الكتخدا وكان محمد على باشا وقتئذ في الاسكندرية، وهنأه الشعراء بقصائدهم ، وأعطاهم الجوائز، واستمر ازدحام الناس أياما، ثم امتنع عن الجلوس في المجلس العام نهارا، واعتكف بحجرته الخاصة، فلا يجتمع عنده الا بعض من يريدهم من الافراد، فانكف الكثير عن التردد عليه ، وذلك من حسن الرأي".

يتبين من رواية الجبرتي ان منزلة السيد عمر مكرم في قلوب الشعب بقيت كما كانت عند منفاه، ولم ينس الناس ما اسداه لهم من الخير، مع انقضاء عشر سنوات على نفيه، ورجع عظيما كما كان قبل نفيه، ولولا ذلك لما هنأه الشعراء بقصائدهم وازدحم الناس على داره، وظاهر أن عيون محمد علي باشا كانت منبثة حول داره ترقب بحذر ازدحام الجماهير على بابه، وتستمع تهاني الشعراء له، وتشهد مظاهر تعلق الشعب بزعيمه القديم، وكيف ان الزمن والمحنة والشيخوخة والنفي ، كل ذلك لم يؤثر في منزلته في القلوب، ومن المحتمل ان هذه المظاهرات لم تكن لتروق لاصحاب السلطة وقتئذ، ولا يبعد ان يكون قد بلغ السيد عمر ان مثل هذه المظاهرات مما يؤخذ عليه، فآثر الاعتكاف في داره حتى لا تكون فتنة ولا تكو وقيعة، فكان ذلك من حسن الرأي كما يقول الجبرتي، وان كلمة حسن الرأي تؤكد ان الاعتكاف كان سياسيا.

على أن محمد علي لم يأمن على مركزه من نفوذ السيد عمر مكرم، ولم يطمئن لبقائه طويلا في القاهرة، وبالرغم من شيخوخته واعتكافه في بيته بمصر القديمة (بساحل أثر النبي) فإنه كان مصدر قلق لمحمد علي، وحدث أن قامت في القاهرة سنة 1822 فتنة هاج فيها السكان استياء من فرض ضريبة جديدة على منازل العاصمة بعد فرضها على منازل البنادر في الأقاليم، فاخذ الموظفون فيطوفون بالمنازل لتقدير الضرائب عليها، فوقعت مصادمات بين أهالي بابا الشعرية وبعض الموظفين الموكول اليهم تقدير الضريبة ادت الى اقفال الدكاكين وهياج الاهالي، وذهبت جموعهم الى دار الشيخ العروسي شيخ الازهر، وكان يسكن على مقربة من موطن الهياج، وقد خرج من داره قاصدا الازهر، فالتفت به الجماهير رجالا ونسا يضجون ويصيحون، وكادت تقع الفتنة لولا أن عالجتها الحكومة بالحزم واتخاذ التدابير الكفيلة بحفظ الامن، ونفذت الحكومة المصرية الضريبة كما قررتها، وقد ساورت الظنون محمد علي باشا، وارتب في ألا يكون للسيد عمر مكرم يد في تلك الفتنة ، والواقع أنه كان بعيدا عنها، فارسل اليه رسولا في داره انهى اليه ان محمد علي يامره بمغادرة القاهرة والاقامة في طنطا، ومعنى ذلك انه امر بنفيه ثانيا من مصر، فاجاب السيد عمر باستعداده لمبارحة العاصمة بعد انه يعد مركبا ينقله الى طنطا، فاخبره الرسول ان المركب معدا لهذا الغرض في ساحل مصر القديمة، فادرك أن المراد أن يغادر المدينة فورا، ويرحل الى منفاه، فتلقى هذه المحنة الجديدة بالصبر، وبرح العاصمة مساء ذلك اليوم، فكانت هذه هي المرة الرابعة التي يذهب فيها الى المنفى، فالأولى والثانية في عهد الحملة الفرنسية، والمرتان الثالثة والرابعة في عصر محمد علي.

 

وهكذا كانت حياة ذلك المجاهد الكبير سلسلة من النفي والهجرة، ومكافحة الخطوب والمحن، ولم يعرف فضله، ولا كوفئ على جهاده بالشكر وحسن التقدير، بل كان نصيبه النفي والحرمان والاقصاء من ميدان العمل، ونكران الجميل، وذلك كان جزاء أكبر شخصية ظهرت بين رجالات مصر في فجر النهضة القومية.

لماذا لم يستول على السلطة؟

لماذا لم يستول "عمر مكرم" على السلطة على اعتبار أنه قائد الثورة ومحركها، والأقدر على إقامة العدل والرفق بالشعب؟

والواقع أن إجابة هذا التساؤل لا بد أن تعتمد القراءة الثقافية السياسية من منظور ذلك العصر الذي لم ينظر إلى العثمانيين على أنهم غزاة مغتصبون، ولكن كان ينظر إليهم على أنهم حماة للإسلام، ومن ثم فالثورة على "خورشيد" كانت ثورة على الحاكم الظالم بصفته الشخصية وليست ثورة على النظام السياسي، لذلك فإن تولي "عمر مكرم" للحكم من خلال هذه الثورة قد يفسره العثمانيون على أنه ثورة ضد دولة الخلافة، أما اختيار "محمد علي" -وهو من جنس القوم- لتولي حكم مصر فلن يثير غضب الباب العالي بدرجة كبيرة، ومن هنا تتضح حصافة الرجل الذي قال للزعماء صراحة: "لا بد من تعيين شخص من جنس القوم للولاية".

تولى "محمد علي" حكم مصر بتأييد الزعامة الشعبية التي قادها "عمر مكرم" وفق مبادئ معينة في إقامة العدل والرفق بالرعية، وكان من نتيجة ذلك أن تحملت الزعامة المسئوليات والأخطار التي واجهت نظام "محمد علي" الوليد، ومنها أزمة الفرمان السلطاني بنقله إلى "سالونيك"، والحملة الإنجليزية على مصر سنة (1222هـ = 1807م)، وإجهاض الحركة المملوكية للسيطرة على الحكم في مصر؛ ففي هذه الأزمات الثلاث الكبرى كانت زعامة "عمر مكرم" تترسخ في وجدان المصريين؛ إذ رفض مساندة المماليك في تأليب الشعب ضد "محمد علي"، ورفض فرمانات السلطان العثماني بنقل "الباشا" إلى "سالونيك" فاحتمى "محمد علي" به من سطوة العثمانيين، وفي حملة "فريزر" قام "عمر مكرم" بتحصين القاهرة، واستنفر الناس للجهاد، وكانت الكتب والرسائل تصدر منه وتأتي إليه، أما "محمد علي" فكان في الصعيد يتلكأ، وينتظر حتى تسفر الأحداث عن مسارها الحقيقي.

 

أدرك "محمد علي" أن "عمر مكرم" خطر عليه أمام أحلامه في الاستفراد بحكم مصر؛ فمن استطاع أن يرفعه إلى مصافّ الحكام يستطيع أن يقصيه، ومن ثم أدرك أنه لكي يستطيع تثبيت دعائم ملكه وتجميع خيوط القوة في يده لا بد له أن يقوض الأسس التي يستند عليها "عمر مكرم" في زعامته الشعبية.. فعندما أعلن زعماء الشعب عن استعدادهم للخروج لقتال الإنجليز أجاب "محمد علي": "ليس على رعية البلد خروج، وإنما عليهم المساعدة بالمال لعلائف العسكر".

 

كانت العبارة صدمة كبيرة لعمر مكرم؛ إذ حصر دور الزعامة الشعبية في توفير علائف الحيوانات، ولكن حصافة الرجل لم تجعله يعلن خصومة "محمد علي"، وأرجع مقولة "الباشا" إلى أنها زلة لسان، وآثر المصلحة العامة لمواجهة العدوان؛ فقام بجمع المال؛ وهو ما وضعه في موقف حرج مع بعض طوائف الشعب.

 

وصف الجبرتي مكانة "عمر مكرم" بقوله: "وارتفع شأن السيد عمر، وزاد أمره بمباشرة الوقائع، وولاية محمد علي باشا، وصار بيده الحل والعقد، والأمر والنهي، والمرجع في الأمور الكلية والجزئية".

 

فكان يجلس إلى جانب محمد علي في المناسبات والاجتماعات، ويحتل مركز الصدارة في المجتمع المصري، حتى إن الجماهير كانت تفرح لفرحه، وتحزن لحزنه.

التقت إرادة "محمد علي" في هدم الزعامة الشعبية مع أحقاد المشايخ وعدد من العلماء على "عمر مكرم"، وتنافسهم على الاقتراب من السلطة وتجميع ما تُلقي إليهم من فتات، في هدم هذه الزعامة الكبيرة؛ فقد دب التنافس والانقسام بين المشايخ حول المسائل المالية، والنظر في أوقاف الأزهر، وتولي المناصب.

 

ولم تفلح محاولات رأب الصدع بين العلماء؛ فتدهورت قيمتهم ومكانتهم عند الشعب، واستشرى الفساد بينهم، واستطاع "محمد علي" أن يجد طريقه بين هذه النفوس المريضة للوصول إلى "عمر مكرم"، بل إن هؤلاء المشايخ سعوا إلى السلطة الممثلة في "محمد علي" للإيقاع بعمر مكرم، ووقف هذا السيد الكريم في مواجهة طغيان السلطة وطغيان الأحقاد بمفرده، ونقل الوشاة من العلماء إلى "الباشا" تهديد "عمر مكرم" برفع الأمر إلى "الباب العالي" ضد والي مصر، وتوعده بتحريك الشعب للثورة، وقوله: "كما أصعدته إلى الحكم فإنني قدير على إنزاله منه".

 

ولم تفلح محاولات "محمد علي" في رشوة "عمر مكرم" في تطويع إرادته وإرغامه على الإقلاع عن تبني مطالب الشعب، ومن ثم لجأ إلى المكيدة التي عاونه فيها العلماء، وعزل "عمر مكرم" عن "نقابة الأشراف" ونفاه إلى دمياط في (27 من جمادى الثانية 1224هـ = 9 من أغسطس 1809م)، وقبض العلماء الثمن في الاستحواذ على مناصب هذا الزعيم الكبير؛ ومن هنا جاءت تسمية الجبرتي لهم بـ"مشايخ الوقت".

 

استمر "عمر مكرم" في منفاه ما يقرب من 10 سنوات، وعندما حضر إلى القاهرة في (12 من ربيع الأول 1234هـ = 9 من يناير 1819م) ابتهج الشعب به ولم ينس زعامته له، وتقاطرت الوفود عليه. أما الرجل فكانت السنون قد نالت منه؛ فآثر الابتعاد عن الحياة العامة، ورغم ذلك كان وجوده مؤرقًا لمحمد علي؛ فعندما انتفض القاهريون في (جمادى الآخرة 1237هـ = مارس 1822م) ضد الضرائب الباهظة نفاه محمد علي ثانية إلى خارج القاهرة؛ خوفًا من أن تكون روحه الأبية وراء هذه الانتفاضة، لكن الموت كان في انتظار الزعيم الكبير حيث توفي في ذلك العام بعد أن عاش آلام الشعب، وسعى لتحقيق آماله، وتحمل العنت من أجل مبادئه.