رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

من المسئول؟ (2)

استكمالا للمقال السابق "من المسئول".. وردا على التعليقات التي وصلتني سواء عبر موقع الوفد مباشرة أو من خلال البريد الإلكتروني، أستكمل معكم الحوار الذي بدأناه حول التغيرات التي طرأت على شخصية الإنسان المصري، وأعتقد والجميع يوافقني الرأي في ذلك، أن رصد تلك التغيرات لا يكفيها مقال او مقالات، بل دراسات وسنوات من الإعداد والبحث والفحص والتمحيص.

وقبل الخوض في عملية الرصد، نجد أن هناك العديد من المرتكزات الرئيسية التي يمكن تحديدها لمعرفة نقاط التغير، سواء على المستوى الأخلاقي أو المعيشي أو المجتمعي أو المهني، حيث نجد أن جميعها تتشابك ويتأثر ببعضه البعض، فالذي يؤثر في المعيشة يؤثر في الأخلاق، ومن ثم المجتمع وصولا إلى الجودة في العمل.

لكن من أين نبدأ عملية الرصد، هل نبدأ من البيت، أم من مراحل التعليم المختلفة، ام من الشارع، أم من العمل، أم من الحكومات وخططها وقراراتها، أم ماذا، فأي خلل في أي من تلك العناصر يؤثر بطبيعة الحال على العناصر الأخرى، فبمن نبدأ، بالبيضة أم الدجاجة؟

ومن المؤكد أن من يحاول رصد هذه التغيرات، سيجد حيرة كبيرة في تحديد البدايات التي طرأت على الشخصية المصرية، لكن ماذا لو حاولنا أن نبدأ من العنصر الرئيسي المساعد في تقويم الأخلاق وهو مصنع أو "مفرخة" الأجيال المستقبلية لمصرنا الحبيبة.. والذي إذا صلح، صلح الجسد كله.. فهو الجذر الذي يحمل الجسد، فإذا ما أصيب بالعطب أو التعفن لن تقل ثمرته عنه عفونة.. وأعتقد أنها البداية الصحيحة.. وزارة التربية والتعليم، والتي حذف نصفها الأول لسبب لا يعمله إلا الله، لتصبح فقط وزارة التعليم، وفي وقتنا الحاضر والحمد لله لا تربية ولا تعليم.

ولنكن منصفين، وحتى لا نلقي اللوم كله على معدي الأجيال من المدرسين، لابد وأن نسترجع سويا عيشة ومعيشة المدرس منذ 100 عامة تقريبا، لنجد أن متوسط راتب المدرس الذي يعمل في التعليم الأساسي، في عشرينات القرن الماضي، كان يدور حول أربع جنيهات مصرية، وقيمة الجنيه المصري وقتها كانت تزيد عن قيمة الجنيه الذهب الإنجليزي بقليل، إذ كان يصل سعر الجنيه الذهب الإنجليزي عيار 18 إلى نحو 97 قرشا، وكان وزن الجنيه الذهب 8 جرامات، بما يعني أن المدرس يتقاضي 4.123 جنيه ذهب إنجليزي، بما يعادل 33 جراما من الذهب عيار 18، ويعني أيضا أن جرام الذهب من هذا النوع يصل إلى نحو 12 قرشا، وإذا ما احتسبنا راتب المدرس المصري في المرحلة الابتدائية وفقا للأسعار المعمول بها حاليا في أسواق الذهب المصرية، نجد أنه يصل إلى أكثر من 6320 جنيها، على احتساب أن سعر جرام الذهب عيار 18 يصل حاليا إلى 191.64 جنيه.

وإذا كان راتب معلم الابتدائي الحاصل على تعليم متوسط (معهد المعلمين) أربع جنيهات في عشرينات القرن الماضي، أو أكثر من ستة آلاف جنيه في وقتنا الحاضر، أعتقد أنه راتب يكفي لجعل المعيشة بحبوحة ورغدة، ومن المؤكد أن فكرة تحصيل دخل إضافي لمواجهة الحياة الصعبة أو سد النفقات والديون كانت مستبعدة تماما، ولن نجد مدرس ما يمارس أساليب القهر والتعذيب والترهيب لإجبار تلاميذه على الدروس الخصوصية، فهو في الأساس لن يبخل عليهم بعلمه، فليس لديه مشاكل على الإطلاق في كونه يعيش إنسان مصري محترم يحظى باحترام من حوله، بداية من أولياء الأمور، وصولا للتلاميذ أنفسهم، بل سيكون حريصا على الوصول بمن في عهدته أو أمانته من أرواح إلى أعلى المستويات، سواء على المستوى العلمي أو الأخلاقي.

وإذا ما نظرنا إلى مراحل تدهور راتب المدرس المصري في المرحلة الإبتدائية، يمكن رصدها بسهولة، وسيكون المعيار لدينا هو جرام الذهب عيار 18.. ولرصد مراحل التغير على أحوال المدرس المصري، سنجد أنها بدأت تحديدا بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من التغيرات التي شهدتها هذه الفترة وما صحبها من اضطرابات وفقر، إلا أن متوسط الراتب للمدرس ظل مرتفعا قياسا بوقتنا الحاضر، إلى أن دخل مرحلة جديدة من التغيير، وتحديدا بعد ثورة يوليو 1952، ليواصل انحداره بشكل سريع مع حرب السويس عام 1956، إذا بلغ متوسط راتب المدرس حينها تسع جنيهات، وسعر جرام الذهب محل المعيار هنا كان 33 قرشا، بما يعني أن راتب المدرس يعادل 27 جراما من الذهب، ويعادل في وقتنا الحالي، 5175 جنيها.

وعلى الرغم من هذا التراجع، إلا أن التربية والتعليم كانت تسير بخطى منتظمة، و"المفرخة" كانت تنجب سنويا أجيالا وأجيالا من الخريجين، ولم يطرأ أو لم نلاحظ تغيرات على الأخلاق أو العملية التعليمية، بل زادت نسبة المتعلمين، وبعد أن كان المعلم حاملا لشهادة متوسطة، أصبح من خريجي الجامعات أو المؤهلات العليا، وظل التعليم على

هذا المنوال تقريبا إلى فترة منتصف الستينات، والتي شهدت علامة بارزة في التغير، حيث بلغ متوسط راتب المدرس الحاصل على مؤهل عالي في هذه الحقبة إلى 17 جنيها، فيما بلغ سعر جرام الذهب عيار 18 إلى 66 قرشا، بما يعني أن راتب المعلم خلال تلك الفترة يعادل 25.75 جرام من الذهب، بما يعادل حاليا نحو 4900 جنيها تقريبا.

ومازالت الحياة تمضي، ولم يتأثر المدرس بتلك التغيرات، بل التعليم من أفضل إلى أفضل، بل أيضا تبنت مصر في حينها تأسيس العملية التعليمية في أغلب البلدان العربية التي فاقتنا علما حاليا، وتأتي حرب أكتوبر المجيدة، لتشهد معها حماسة وانتفاضة على كل المستويات، ليتم تعديل رواتب المعلمين حاملي المؤهلات العليا على عدة مراحل، إلى أن يصل متوسط راتب المعلم بنهاية سبعينات القرن الماضي إلى نحو 28 جنيها تقريبا، ويرتفع أيضا سعر جرام الذهب إلى 120 قرشا، بما يعني أن راتب المعلم منذ نحو 30 سنة كان يعادل 23.33 جرام من الذهب، وهو ما يعادل في وقتنا الحاضر 4470 جنيها، ومع احتساب معدلات التضخم والقوة الشرائية للجنيه، يقل هذا الرقم بنحو 20% عن قيمته الفعلية.

وكنتيجة مباشرة لعصر الانفتاح، وما ترتب عليه من تغيرات كثيرة، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو حتى السياسي، بدأت تتشكل ملامح التغير على شخصية الإنسان المصري بصورة واضحة إلى حد كبير، وبدأنا نسمع عن ظهور طبقة جديدة من الأثرياء الأميين، الذين خلفتهم مرحلة الانفتاح الاقتصادي، ورغم هذا أيضا، كانت العملية التعليمية تقاوم هذا التغير، إلا أنها بدأت تتأثر بطبيعة الحال، وهو نتيجة مباشرة لارتفاع تكاليف المعيشة، وتراجع قيمة الجنيه المصري، وعدم مقدرة الحكومات على كبح جماح التضخم، ليصل متوسط راتب المدرس المصري بنهاية الربع الأخير من عام 1981 إلى 67 جنيها تقريبا، فيما وصل سعر جرام الذهب عيار 18 إلى 10.68 جنيه، بما يعادل 6.3 جرام من الذهب، وهو ما يعادل في وقتنا الحاضر 1202 جنيه.. وهكذا بدأ الراتب في مرحلة الإنحدار السريع، ليصل متوسطه في وقتنا الحاضر إلى نحو 600 جنيها تقريبا، بما يعادل 3.13 جرام من الذهب عيار 18 ؟!

بعد هذا الاستعراض الطويل لتطور راتب المعلم بالمرحلة الابتدائية، أترك لكم الإجابة على الأسباب التي أدت إلى التغيرات التي طرأت على الشخصية المصرية، وبالرجوع إلى ما أشار إليه الدكتور أحمـد عكاشــة أستاذ الطب النفسي في رصده لتلك المتغيرات، من تدني في المستوى الأخلاقي، والتعليمي، والثقافي، وارتفاع معدلات الجريمة، و"تحليل" الرشوة، وفساد هنا وهناك، وما إلى ذلك من صفات طرأت علينا، سنجد أن هناك رابطا قويا بين تلك المتغيرات، وما تشهده مدارسنا بمراحلها المختلفة حاليا، أو بمعنى آخر تعطل أن لم يكن خراب ماكينة إنتاج الإنسان المصري.

وسؤالي هنا، هل إعادة النظر في العملية التعليمية برمتها، سواء من حيث معيشة المدرس ذاته، أو المناهج الدراسية، أو العملية التربوية، وإعادة الهيبة إلى المدرسة والمدرس، وتحفيز الطلاب، وأشياء أخرى كثيرة، هل لو أعدنا النظر في هذه الأمور جميعا، يمكن للإنسان المصري أن يسترد شخصيته المفقودة؟

[email protected]