رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

المتصوِّف الزَّاهد

المرة التي زارني فيها كانت منذ نحو 4 سنوات، تخطى -فى ذلك الوقت- عامه الثمانين-، لكنه لا يستسلم لأمراض السن المتقدمة، كان ظهره قد انحني قليلاً، لكنه تحامل علي نفسه لزيارة أحبائه، وعلي رأسهم مولانا الإمام الحسين والسيدة زينب، حفيدا النبي صلي الله عليه وسلم، في المسجدين أقبل الناس يسلمون عليه ويطلبون الدعاء. لا يحتاج من يراه إلي أن يعرف من هو، وجهه يضىء بنور الولاية (سيماهم في وجوههم من أثر السجود). كلمة «الولى» ليست ادعاء من عندى، أو تحيزاً لأنني جزء منه، وإنما ظلت -منذ زمن بعيد- تطرق أذنىَّ من أفواه كل من يراه ويتعامل معه، فليمس صفة الولاية ظاهرة في وجهه وأقواله وأفعاله.

سر الأسرار في حياته إطعام الطعام، يجمع المساكين والفقراء، يطعمهم بيديه، لا تقع عينه علي مجذوب يمشى في الشارع إلا ناداه وشده من يده ليقدم له أطيب ما لديه من طعام. يقول له أحد أقاربه «يا خالى لا يليق بك أن تطعم هؤلاء بيديك ومنهم من يسيل اللعاب من فمه، فيرد عليه «ما أفعله هو ما سينفعنى في آخرتى، وما تبقي من مال في الدنيا لن ينفعنى». يحرص كل عام علي إقامة وليمة يذبح فيها من الذبائح علي قدر استطاعته، ويتلو ذلك ليلة يشدو فيها المنشد بالمدائح النبوية، وينتهى الإنشاد قبل ارتفاع صوت أذان الفجر بقليل، وبعد الصلاة يتوجه الحاضرون إلي بيوتهم، ويأخذ الضيوف قسطاً من النوم في بيتنا، ويستيقظون وقد دبَّ النشاط في أجسادهم، والسر في هذا هو الطاقة الروحية العالية التي تسري في الأبدان، بعد ليلة يشعر فيها من حضروها بأن الملائكة أحاطت بالمكان ونشرت فيه الطمأنينية والسرور.
فضله علىَّ عظيم، أنا صنيعة يديه، وضع القلم بين أناملي الصغيرة وعلمني الكتابة، لم يلتحق بالمدارس إلا لسنوات قليلة، لكن للعلم -بجميع أنواعه- قيمة كبرى في حياته، يحرص علي اقتناء الكتب ويشعر بأهميتها القصوى. في عامي الثامن في السنة الثانية الابتدائية- كنت قادراً علي القراءة الحرة، يعرف موعد صدور مجلات الأطفال المفضلة عندي فيسلمني ثمنها سواء طلبت أم لم أطلب، وبعد فترة أوصى بائع الصحف -عم فاروق- بأن يعطيني ما أريد من مجلات، علي أن يخبره بما حصلت عليه فيمنحه المقابل المادى سعيداً. وعندما كبرت قليلاً أضفت إلي المجلات قراءة الصحف ثم الكتب، يدفع ثمنها راضياً مرضياً، وبين وقت وآخر يشتري لي بعض الكتب المفيدة، خاصة عند زيارته القاهرة.
القيمة الرئيسية عنده هو الصدق، يحب الصراحة ويمقت الكذب. يحرص علي أداء الصلوات في وقتها، خاصة صلاة الفجر التي أتذكر أنه لم يتركها في يوم من الأيام إلا في حالة المرض الشديد، يصوم معظم أيام العام، لا يحرم نفسه من الأطعمة ذات

المذاق الطيب، يأخذ ما يكفيه ولا يستزيد، غير شغوف بالدنيا وما فيها، زاهد في متاعها دون حرمان، تتجسد فيه مقولة العارفين بالله من المتصوفة ممن يرددون «اللهم اجعل الدنيا في أيدينا، ولا تجعل الدنيا في قلوبنا».
هو واحد من أبرز مشايخ الطرق الصوفية في أسوان، وفي كثير من المرات سأله تلاميذه ومحبوه: لماذا لا تضم ولدك إلي الطريقة السعدية التي تنتمي إليها، فتأتي إجابته واضحة: «هو حر فيما يختار»، وبالفعل كان الابن حراً، وجد نفسه لا يختار طريقاً بعينه، وإنما يحب آل البيت والأولياء جميعاً، ويستمد من الكل، ويميل قلبه إلي سيدى أبي الحسن الشاذلى، ويرجو أن يلمس من الجميع ولو جزءاً ضئيلاً من النور.
تعرض لكثير من الابتلاءات في حياته، لكنه ظل كالجبال صامداً متحسباً أجره عند ربه، ومنذ نحو عام كسرت ساقه، فتدهورت صحته سريعاً، وتحمل الآلام الشديدة، وسافرت إليه عدة مرات بعد الإصابة، وفي المرة الأخيرة منذ نحو شهرين ودَّعته ولدي شعور قوي بأننا لن نلتقي مرة أخرى بالأجساد، وقلت له لأول مرة في حياتى «الحى يقابل الحي»، وتعرض لوعكة شديدة قبل 3 أسابيع من لقاء ربه، وفي اليوم قبل الأخير استرد جزءاً كبيراً من عافيته، وقدمت له أمي وأختى «كريمة» الطعام، وكانت الزبادى وجبته الأخيرة في العشاء، قدمها له أخى «عبدالباسط»، وعند قدر معين قال «الحمد لله»، وأراد أخي أن يزيده فقال له «خلصت، خلاص». وفي صباح يوم الاثنين (اليوم الذي يحبه النبي) الموافق 27 صفر 1435 هـ، 30 ديسمبر 2013 انتقل إلي جوار ربه، وشهد جنازته حشد هائل من محبيه، وتوالت وفود المعزين خلال أيام العزاء الثلاثة وما تلاها، وقال كثيرون إنه من أولياء الله الذين (لا خوف عليهم). نطلب من الله أن نكون علي درب والدنا حتي يحين اللقاء.

[email protected]