عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

وجـــــــــفت الجــــــذور

بوابة الوفد الإلكترونية

انطلقت الزغاريد في دوار العمدة .. تجمع الأهل والجيران فرحين مهنئين فلقد رزق العمدة بحفيد جديد ..كم كانت فرحته شديدة كعادة أهل الريف كلما رزقوا بمولود ذكر ..

أمر بذبح الذبائح فأكل وشبع منها كل أهل القرية .. في يوم السبوع تظهر أجمل صور التكافل والمحبة بين أهل القرية .. فتجد مجموعة من الصبايا بملابسهم الزاهية الجميلة تحمل كل واحدة منهن فوق رأسها سبتاً مصنوعاً من البوص .. قد تتشابه محتوياته لكن تختلف الكمية كل حسب طاقته ومقدرته .. فتجد زجاجات الشراب، أقماع السكر، وأكياس المكرونة وأكياس الفاصوليا واللوبية الجافة وبعض الطيور وفي بعض الأحيان قد يقدم مبلغاً من المال .. فهذا هو النقوط المتعارف عليه بين أهل القرية .. عرفٌ متوارث منذ القدم .. كل هذا يعتبر في الظاهر هدية تقدم في حالات السبوع أو الختان أو الأفراح .. لكنه في الحقيقة يعتبر ديناً من العيب ألا يرد .. كان عمدة البلد من الرجال الذين يمكن أن يطلق عليهم أخر الرجال المحترمين .. الأمر الناهي في القرية .. كل الخلافات والنزاعات بين الأهالي .. حتى المشاكل الأسرية بين الرجل وزوجته أو بين الأب وابنه .. يلجأ له الجميع ليفصل بينهم .. حكمه مطاع يتقبله الجميع عن حب واقتناع .. كان كرمه يباري عدله ، لم يردّ في يوم من الأيام سائلاً أو محتاجاً من قريته أو حتى من القرى المجاورة .. استحق عن طيب خاطر محبة واحترام كل أهل القرية .. من العيب كل العيب أن يمر عليه أحدهم في مجلسه وهو يمتطي دابته .. فتجده ينزل من على ظهرها حتى يبتعد عن نظره ثم يعود ليركبها ثانياً .. كان عدله أكثر مع أبنائه ، الجميع يعيش معه في الدوار ..  ( منزل كبير من الطوب اللبن تحيط به أرض فضاء واسعة ) وفي طرف القرية تقع حديقة كبيرة لهم ينعم الكل بخيراتها .. وكلما بلغ أحد أبنائه سن الزواج يبني له غرفة أو أثنين ملاصقة    للبيت .. ساعة تناول الطعام يتجمع الرجال والأبناء أولاً على طبلية خشبية في صحن البيت يقوم العمدة بتوزيع أنصبتهم من اللحوم بنفسه .. ثم بعد أن ينتهي الجميع من الأكل ينصرف كلٌ إلى داره .. ثم تبدأ النساء بعد ذلك في تناول طعامهن .
وهكذا كانت تمر بهم الأيام والجميع يعيشون في سعادة ومحبه .. ينامون في نفس البيت ويأكلون من نفس الطعام .. وإذا حدث مرة وطلب منه أحد أبنائه مبلغاً من المال لشيء خاص به لم يكن يتردد في إجابة طلبه .. دون تذمر أحد إخوانه .. بل كثير في بعض الأحيان يتحرج أحدهم أن يطلب شيئاً من أبيه فيذهب أخ أخر ليتوسط له .. كانت النفوس راضيه قانعة فعاشوا متكاتفين متعاونين يساعد بعضهم البعض عند أي مشكلة .. فزادت قوتهم وزادت هيبة الناس لهم .. حتى القرى المجاورة كانت تعمل للعمدة وعائلته ألف حساب .. وتأخذ برأيه لحل خلافاتهم ، بل إنه لم يكن يتوانى في أي يوم .. أوفي أي وقت أن يذهب إلى قراهم ليصلح بينهم .. وعلى الرغم من كثرة أعبائه وانشغاله بأعمال العمدية لم يكن ينسىَ في أي مناسبة أن يحضر لأطفال العائلة بعض الحلوى .. وأن يقوم بذبح الذبائح ويوزعها على أهل قريته .. في الأعياد وبعد الذهاب إلى المسجد للصلاة يقف في صحن البيت ويمر عليه أطفال العائلة واحد تلو الآخر يقبل كل منهم يده فيعطيهم العيدية ( المضيوع ) لم تنقطع هذه العادة الجميلة طوال حياته .
في هذا العام زادت خيرات الحديقة إلا إحدى أشجار الجوافة لم تثمر ، كانت شجرة مميزة تطرح ثماراً حمراء من الداخل .. غرزها العمدة وهو صبي وأخذ يوليها بعنايته حتى كبرت وأثمرت فسميت بذلك شجرة العمدة .. كان يجمع ثمارها بنفسه ثم يوزعها على أحبائه كهدية .. اندهش الجميع لما حل بشجرة الجوافة .. إلا عم نصر حارس الحديقة لم تكن بالنسبة له مجرد دهشة .. ولكن أصابه حزن بليغ وامتنع عن الطعام لعدة أيام مما زاد دهشة أولاد العمدة .. لماذا كل هذا الحزن على الشجرة ؟!! .. شجرة واحدة .. لم يكن يرد على تساؤلاتهم بل كان ينظر لهم بنظرة لا يعلم معناها إلا الله .
مرت شهور والحياة هادئة في القرية تسير على وتيرة واحدة .. في ذات مرة حدثت مشكله بين عائلتين في القرية المجاورة لهم ، دعا العمدة كبار العائلتين إلى دواره .. ظل يعمل أيام متواصلة بجد ونشاط واهباً كل وقته وتفكيره حتى انتهت المشكلة على خير، وتم الصلح بينهما .. لكن نال منه التعب منالاً شديداً أحس بإرهاق وضعف عام في كل جسده .. في مساء نفس اليوم توفي العمدة .. كانت صدمة قوية وفجيعة مؤلمة لأهل القرى المجاورة .. حتى لمن كانوا يعادوه لأنه لم يكن يحقق لهم مطالبهم الشخصية .. فكما احترموه في حياته حزنوا أيضاً لموته لأنه كان خصماً شريفاً .. وقع الجميع في حيره من موت العمدة المفاجئ .. منهم من قال أنه مات حسرة على حال القرى من حوله ، ومنهم من قال إرهاق ومجهود زائد عندما حاول الصلح بين العائلتين المتناحرتين ، لكن أمر الله لا ردّ له .. اختار أهل القرية شيخ البلد عمدة لهم .. فهو أكبرهم سناً وأكثرهم دراية بشؤون العمدية .. لكن شتان بين ، بين .. فعلى الرغم من أنه عاش في كنف أبيهم مدة طويلة إلا أنه لم يكن على قدر المسئولية ، كان الجلباب واسعاً عليه ، على حد قول أهل القرية .. أخذ يميز بعض الناس عن بعض يجزل في العطاء لكل من يداهنه .. ويقرب إليه من   يألهه ..صب كل غضبه على من يخالفه الرأي أو حتى من ينصحه ويصدقه القول .. لم يكن يحل المشاكل حلاً جذرياً بل يرجئها للزمن .. تصالح مع إحدى القرى المجاورة كانت بينهم نزعات منذ القدم على الحدود .. تغاضى عن طيب خاطر على قطعة أرض كانوا قد استولوا عليها ، وعدهم بأن يتنازل لهم أيضاً عن بعض المياه المخصصة لقريته دون أن يأخذ رأي أهل قريته أو حتى يستشير أحد .. التفت من حوله بطانة السوء ، أدخلوا في روعه أنه مهدد من كثير ممن حوله حتى يظل في حاجة إليهم .. ويستمروا هم يرتعون تحت عباءته .. نصحوه بأن يعيش حياته ولا يقتل نفسه من كثرة العمل مثل العمدة السابق فالإنسان يعيش حياته مرة واحدة .. استولى على قصر كان ملكاً لأحد الإقطاعيين استخدموه سابقاً كمخزن للإصلاح الزراعي ..انتقل وأسرته للإقامة فيه ، عاش حياته كما يحلو له .. أعطى الضوء الأخضر لأهله فباعوا واشتروا في القرية دون رادع لـهم ، ترك لبطانة السوء إدارة شئون القرية ، فظهرت المشاكل وتجددت النزعات بين الأسر ، وأصبحت القرية في واد وهو في واد اخر .. ويوم بعد يوم أمسك بكل مقاليد القرية في يده هو وجماعته .. ليحقق طموحاته وأحلامه دونما أن ينظر إذا كان هذا في مصلحة قريته أم لا .
بعد الأربعين اجتمع الأخوة جميعهم يقسمون التركة فيما بينهم .. فقام الأخ الأكبر بحصر الممتلكات وبدأ في توزيعها .. لم يعترض أحد من الأخوة .. منهم من سكت عن اقتناع .. حتى من لم يكن مقتنعاً سكت عن حب وتضحية فكلهم أخوة ولن يذهب مالـهم إلى أحد غريب .. في أحد الأيام وأثناء قيام عم نصر بريّ الحديقة ، ورعايتها ، حضر الأخوة ، ومعهم بعض العمال .. سألـهم مندهشاً خيراً يا أولاد .. أخبروه أنـهم سيزيلون الأشجار لتقسيم الأرض .. وبدون

أن يدري وكردّ فعل لشدة حبه للحديقة ، ولمعرفته بقيمتها ، وما تجلبه من خير للأسرة .. رفع فأسه في وجههم غاضباً مهدداً بأنه سيقطع رقبة من يقترب من الشجر .. تجمعوا عليه وأوثقوه بالحبال .. أخذ يصيح وهو يبكي ( دي عمري ) وعمر أبوكم وجدكم .. كيف يطاوعكم قلبكم على فعل ذلك ؟! دعوها يا أولاد فهذا حرام عليكم ، يعوض الله على      الشجر ، يعوض الله على بقية الشجر .
ومرت بهم الأيام كل في عمله يرعى أسرته وأرضه ، كبر الأولاد وبدأ كل أخ ينفصل عن البيت الكبير ، بيت العائلة ويبني لنفسه بيتاً مستقلاً .. وظل الأخ الأكبر في البيت الكبير .. مرت السنون وشاب من الأخوة من شاب ، ومنهم من لحق بأبيه العمدة ، اشتد عود الأولاد وبدأ كل منهم يكون لنفسه أسرة جديدة ، فهذه سنة الحياة ، زادت حاجتهم للمال ، وبدأ بعضهم  يقلب في الدفاتر القديمة ، ويفكر في كيفية توزيع الإرث ، إرث جدهم ، انتهز أحد أقاربـهم  أقارب السوء  الفرصة كانت بين أبيه وبين العمدة عداوة .. ورثها عن أبيه .. كان ميراث الغضب والحقد والحسد .. امتلك وسيطر على كل أحاسيسه وتفكيره .. حبسة في قلبه طوال هذه السنين ينتظر الوقت المناسب لينتقم لأبيه ، علم بحاجة بعض الأخوة للمال بدأ يزرع الفتنة ، ويشعل نار الغيرة في نفوسهم .. وكان حب المال مدخلاً سهلاً للشيطان فبدأ يمارس  لعبته ، أوعز إلى أحدهم بأن يزوّر عقد بيع بين جده وأبيه زاعماً أن أباه اشترى من جده ثلاثة أفدنه من أرض الحديقة .. اشتد النقاش والجدال بين الأخوة ، تحول إلى عراك ، أمسك أحدهم لأخيه عصا من الأبنوس أعطاها له أبوه يوم زفافه ، لم تكن في الحقيقة مجرد عصا فعند سحب مقبضها يخرج منها سيف مدبب ، لم يستعمله جده في يوم من الأيام ضد أحد من أهله  !! حضر أحد أعمامهم على عجل ، حاول بكل الطرق أن يوفق بين أبناء أخيه ويلم الشمل ويحل المشكلة فلم يكن جزاؤه إلا أن ضربه أحدهم بعصاه فشق رأسه ، تركهم العم وكله حسره وألم من سوء حال أولاد أخيه ، وكيف تغيرت القيم ، وحلّ الطمع والجشع محل القناعة والرضا .. من قبل كانت تحدث بعض المشاكل ولكن كانت توأد في مهدها ويرضى الجميع بحكم كبير العائلة ، لم يعطوا فرصه لأي أحد من خارج العائلة ليتدخل فيما بينهم .. أما الآن أصبح رأي الصغير يمشي قبل رأي الكبير مادام صوته هو الأعلى ، ومادام هناك من يساعده ويمده بالعون ، زادت الفرقة بين الأخوة المتنازعين ، حتى من لم يكن طرفاً في المشكلة وجد نفسه داخل دائرة النزاع ، وأخذ قريبهم يمد نار الفرقة والكراهية بالمال والأعوان لكل منهم حتى عمت القلوب ، وتحجرت العقول.
مرت الأيام والأخوة على هذا الحال من سيئ إلى أسوأ .. فُقدت الثقة بينهم بل انعدمت المحبة .. وكانت اللحظة التي ينتظرها قريبهم وسط تشتتهم وتفرقهم ، وكانت المفاجأة والطامة الكبرى ، استيقظ أهل القرية في الصباح الباكر وجدوا بعض العمال يحفرون حول المسجد حتى كادوا يصلون إلى الأساسات ، كان هذا المسجد ثاني مسجد بني في القرية .. بناه العمدة على قطعة أرض تتملكها العائلة وتتوارثها أب عن جد منذ القدم ، ادعى قريبهم بأن قطعة الأرض التي بني عليها المسجد هي ملك له ، ورثها هو أيضاً عن جده ، حضر الأخوة جميعاً ..               تجمع نفرٌ كثيرٌ من أهل القرية .. وقف قريبهم وخلفه أعوانه مدججين بالأسلحة .. صاح بأعلى صوته ماذا أفعل الآن وقد كبرت الأسرة وزاد عدد الأولاد ، لابد من هدم المسجد وبناء بيت كبير يلم شملنا جميعاً ، وسأفعل هذا رضيتم أم أبيتم .. رد الأخ الأكبر عليه هذا بيت الله يا رجل .. أجابه بوقاحة : أنا أعلم أنه بيت الله فهو بيت ربنا نحن أيضاً .. ولكن ما يحتاجه البيت يحرم على المسجد .. سألوه عن أي أوراق أو مستندات تثبت صحة كلامه هذا .. رد عليهم بأن هذا حدث منذ تاريخ قديم ولا يملك أي مستندات ، ولكن جده حضر له في المنام وأخبره أن هذه الأرض ملك له ويجب عليه أن يستردها ، فجدهم الكبير دفن فيها ، أطلق هو وأعوانه الأعيرة النارية لإرهاب المجتمعين حوله .. فرّ منهم من فر .. ومنهم من وقف متفرجاً مادام هذا بعيد عن بيته .. ومنهم من ظل واقفاً متصدياً لزمرة البلطجية هذه ، في هذا الوقت مرّ عم نصر حارس الحديقة .. وقف وسط الأخوة نظر إليهم بألم وحسره صاح فيهم غاضباً ( مش قلت لكم يا أولاد خدوا بالكم وحافظوا على بقية الشجر ، يا ما نصحتكم لحدّ ما تعب قلبي ) ، تركهم وسار وهو يحدث نفسه .. خلاص الجذور جفت يا أولاد .. شجرة الجوافة جفت سنة ما مات العمدة ..يا خسارتك يابا العمدة .. أنت فين يا عمدة .