رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

من ميدان التحرير‮.. هنا القاهرة

هنا في‮ ‬ميدان التحرير‮.. ‬لا ورق ولا دور للنشر ولا جرائد تستعد للطباعة‮.. ‬هنا البث حي‮ ‬والنشر علي مسمع الأحرار الذين انضموا للثوار‮. ‬وابداع الثوار وليد هذي‮ ‬اللحظة من تاريخ الوطن‮. ‬هنا تخرج القصية بالمصطلح النقدي‮ ‬مطبوعة بلا تنقيح ولا مقص الرقيب ولا تبديل للحاسة النقدية‮.‬

ابداع ميدان التحرير منوع‮ ‬فهنا القصيدة العامية وهنا قصيدة الفصحي‮ ‬وهنا القصة القصيرة وهنا أيضا الفن الشعبي‮ ‬لرقصات الثوار وزئيرهم الذي‮ ‬يعلو الميدان ليؤكدوا لأنفسهم انهم أحرار جاءوا لتخليص الوطن‮. ‬وبما أن المسرح هو أبو الفنون فدعني‮ ‬عزيزي القارئ أن نشهد المسرحية الواقعية بلارتوش‮. ‬أو كواليس‮. ‬فأبطال العرض اشترطوا إزالة الكواليس ليكون العرض مفتوحا للجميع ومرئيا للكافة من أبناء هذا الوطن‮.‬
الزمان‮: ‬ساعة الشفق وقت‮ ‬غروب الشمس علي أول كوبري‮ ‬قصر النيل‮ ‬
المكان‮: ‬امتداد الكوبري‮ ‬الشاهد علي عظمة الوطن منتقلا من الكوبري‮ ‬الي ساحة ميدان الشهداء التحرير سابقا‮ ‬
الديكور‮: ‬ثلاث مدرعات عسكرية وسيارتان للجيش المصري‮ ‬مكتوب عليهما‮ "‬شرطة عسكرية‮" ‬وحفنة من جنود متعبين‮ ‬يبدو عليهم الفقر وأنيميا الدم واصفرار للعين بفضل كبدهم الذي‮ ‬نهشه فيروس سي‮.‬
المشهد الاول‮:‬
سيدة في‮ ‬العقد السادس من عمرها ترتدي‮ ‬عباءة سوداء تحمل صورة لشاب في‮ ‬نهاية العقد الأول‮. ‬تزغرد السيدة التي تطلق صرختها للفراغ‮ ‬ووراءها جمع من الشباب‮ ‬يهتف‮ "‬زغردي‮ ‬يا أم الشهيد‮". ‬السيدة تأتي‮ ‬من أسفل منتصف الكوبري‮ ‬بينما‮ ‬يقبع المواطنون في‮ ‬انتظار إجراءات التفتيش‮. ‬تمر السيدة وهي‮ ‬كالتي أصابها مس في‮ ‬حالة ما بين اليقظة والموات‮ "‬هذه حالتها‮"‬،‮ ‬تمشي‮ ‬مشدوهة كأنها في‮ ‬زفاف قروي‮ ‬تحمل صورة العريس الذي‮ ‬تزفه لحورية من حوريات الجنة كما وعد الرحمن شهداءه،‮ ‬تتوازي‮ ‬صورة الشهيد مع مشهد الشمس الفارة من البر إلي النهر فترسم ألوانا من الجنون والتيه علي وجه الأم التي تسير بفعل الحراك المتدافع خلفها‮.‬
من‮ ‬يمين المسرح أقصد الكوبري‮ ‬تجري مصورة أجنبية تبدو بملامح شقراء لالتقاط الصورة التي‮ ‬يضفي‮ ‬الفلاش فيها علي وجه الأم لطمة لإعادة الحياة والوعي‮ ‬فيها‮. ‬عبثا هبة الفلاش التي توارت‮.‬
لغط متدافع وأصوات همهمة وحوقلة وصرخة تنطلق من فراغ‮ ‬النهر‮ "‬ياقوي‮ ‬علي الظالم‮ ‬يا رب‮".‬
يغلق الستار‮.‬
المشهد الثاني‮:‬
سلك شائك عند نهاية كوبري‮ ‬قصر النيل‮.. ‬ينده جندي‮ ‬بأعلي صوته‮ "‬كله‮ ‬يطلع بطاجته‮ " ‬قالها هكذا‮.. ‬مواطنون من كافة الأطياف تتزاحم للتفتيش والإنضمام مع الثوار المعزولين عن المحروسة‮. ‬يفحص الضابط البطاقات بعناية ويمرر فرد فرد‮.. ‬سيدات مصريات‮ ‬يقمن بتفتيش النسوة اللاتي‮ ‬ترغبن في‮ ‬الانضمام إلي ميدان الشهداء‮.‬
ابراز البطاقة هو المعلم اللافت‮.. ‬محذور أن تخفي‮ ‬بطاقاتك وأنت تمر بين الجنود‮.. ‬يدخل لواء عسكري‮ ‬يبدو عليه النحول‮. ‬يهتف شاب من الواقفين‮ "‬الجيش والشعب إيد واحدة‮". ‬تثاءب جندي‮ ‬وكأنما‮ ‬يستند إلي الأسد القابع هناك ليغفو قليلا‮.‬
المشهد الثالث‮:‬
مجموعة من الثوار تستقبل الأحرار في‮ ‬صفين متوازيين بأغنية فلكلورية ألفها أحدهم وظلوا‮ ‬يرددونها‮ "‬أهلا أهلا بالأحرار‮... ‬اللي انضموا للثوار‮"... ‬يدخل رجل معاق‮ ‬يحمله شباب الثورة المصرية ويستقبلون العريس الذي‮ ‬انضم اليهم‮.. ‬يهتف الرجل المعاق تحيا مصر فيهتف وراءه الثوار‮ "‬تحيا مصر‮"... ‬جمهور بشتي‮ ‬الألوان والأطياف‮ ‬يصطف عند مدخل الميدان مرحبا بالايراد الجديد‮ "‬بلغة السجن‮" ‬يقدمون التحية‮.. ‬واحد من الجمهور‮ ‬يعلق لافتة‮ "‬نورتنا‮.. ‬محتاجينك معانا‮"... ‬ثائر آخر‮ ‬يحمل لافتة تجمع بين المر والبسمة‮ "‬حرام عليك ارحل انا متجوز من عشرين‮ ‬يوم ومراتي‮ ‬هتخلعني‮"... ‬ثائر آخر تبدو عليه الاصابة جراء لفافة من القطن والشاش علي عينه اليسري‮.. ‬فتاة محجبة تحمل لافتة‮ "‬انت ما بتفهمش عربي‮.. ‬بنقولك ارحل‮"... ‬أخري‮ ‬بلا‮ ‬غطاء للرأس تحمل لافتة‮ "‬امش بقي عايزة استحمي‮".‬
المشهد الرابع‮:‬
الثوار مبذورون كسنابل القمح بأرجاء الميدان تبدو علي وجوههم العزة وملامح لكبرياء قديم ازالته محنة ‮٠٣‬‭ ‬عاما من القهر‮. ‬يبدون خارج حدود البشر‮. ‬بشرتهم الوردية‮. ‬رجل‮ ‬يصلي‮ ‬بزوجته عند جانب من جوانب الميدان‮. ‬وآخر‮ ‬يلتقي‮ ‬بكل الناس ويقبلهم كأنه علي معرفة قديمة بهم‮.. ‬يقولون‮ "‬إن الثوار‮ ‬يألفون بعضهم‮".. ‬علي الجانب الآخر من الميدان افترشت النسوة الحصير وبقايا الكرتون ومقلب للقمامة مكتوب عليه مقر الحزب الوطني‮. ‬أطفال صغار‮ ‬يتناوبون اللعب كأنه ميدان للحرية وبكارة الاطفال‮. ‬تقول طفلة في‮ ‬يمين المشهد‮ "‬تحيا مصر‮" ‬فترد معها امها وابوها‮: "‬تحيا مصر‮".‬
الأدب الساخر ذخيرة الثوار
يقولون إن شر البلية ما‮ ‬يضحك وتشير أمهات التراث الانساني‮ ‬إلي‮ ‬ان الشخصية المصرية تجمع بين متناقضين الضحك والبكاء ولعلنا نلاحظ أول الموال الشعبي‮ ‬يا عين‮ ‬ياليل فالعين للبكاء والليل للسمر والبهجة والصحبة‮. ‬تجلت الخصيصة هنا‮. ‬لاغرابة أن تجد ثائرا‮ ‬يحمل لافتة تجمع بين المر والبهجة بلغة الإفيه المسرحي‮ ‬مثل‮ "‬عايز أتجوز حرام عليك عندي‮ ٠٣‬‭ ‬سنة‮".. ‬واخري تقول‮: "‬حرام عليك امش بقي‮ ‬ايدي‮ ‬وجعتني‮".. ‬فتصبح الكتابة الأخري من قبيل كتاب‮ "‬عايزة اتجوز‮" ‬محض عبث إلي جوار الكتابة الساخرة التي تعبر عن حال الثوار هنا وتؤكد مطلبهم برحيل مبارك‮.‬
الفن الشعبي‮:‬
الرقصة الشعبية هنا ليست رقصة تنتمي‮ ‬إلي الفلكلور الصعيدي‮ ‬أو البحري‮ ‬أو السويسي‮ ‬أو السكندري‮.. ‬الرقصة الشعبية هنا مزيج
من رقصات الوطن بكافة أطيافها هي‮ ‬رقصة الثوار الذين‮ ‬يجمعهم ألم وهم وقضية واحدة‮. ‬يدخل صعيدي‮ ‬بالعصا علي أصوات شاب‮ ‬يغني‮ ‬للفنان النوبي‮ ‬محمد منير ثم‮ ‬يلف مجموعة من الشباب علي هيئة دائرة مثلما‮ ‬يفعل أبناء الدلتا ويبزغ‮ ‬في‮ ‬المشهد فنان سويسي‮ ‬يغني‮ "‬مصر‮ ‬يا بهية‮ ‬يلا شدي‮ ‬حيلك‮.. ‬اللهم اعينك‮.. ‬مصر‮ ‬يا محروسة هاتي‮ ‬الف بوسة‮.. ‬أنا مش جبان أنا مش جبان‮.. ‬أنا واقف أحرس الميدان‮.. ‬الليلة عيد الليلة عيد‮.. ‬مصر بتبدأ من جديد‮.. ‬حيوا اللي حما الميدان‮.. ‬من العميل الجبان‮.. ‬أنا مش جبان مش جبان‮.. ‬أنا واقف أحرس الميدان‮.. ‬ثورة ثورة ثورة‮.. ‬يلا‮ ‬يا حسني‮ ‬بره‮".
يرفع الثوار أيديهم بالتصفيق دون آلات وترية ولا ايقاعية فتضفي‮ ‬علي الرقصة نغمة الهمة والحماس والثورية‮.‬
الكاريكاتير‮:‬
لوحات الكاريكاتير هنا تبدو مفزعة وخيوطها متعرجة أحيانا ومدببة أحيانا‮.. ‬أشهر اللوحات هي‮ ‬لأم تحتضن شهيدها وتبكي‮.. ‬نسخها صاحبها الذي‮ ‬رفض الافصاح عن اسمه مخافة رجال الدرك من تصيد فناني‮ ‬الثورة‮. ‬هنا أيضا‮ ‬يستحضر الثوار لوحات مطبوعة للفنان عمرو عكاشة وصورة كبيرة لحنظلة وهو‮ ‬يقذف بالحجر للفنان الفلسطيني‮ ‬ناجي‮ ‬العلي‮. ‬كما‮ ‬يبرز أيضا الخط العربي‮ ‬تعبيراً‮ ‬عن حالة الكفاح الثوري داخل ميدان الشهداء حيث‮ ‬يتزاحم الثوار علي رجل في‮ ‬العقد الرابع من عمره ويرتدي‮ ‬نظارة طبية‮ ‬يخط لهم اللوحات التي‮ ‬تعبر عن الغضب المصري‮.‬
الشعر العامي‮:‬
أبرز الفنون الادبية اللافتة هنا‮.. ‬علي إذاعة الثورة داخل ميدان الشهداء،‮ ‬يظهر شاعر ريفي‮ ‬ويتغني‮ ‬بقصيدة أمام حشد من الثوار ليلهب حماستهم‮. ‬مع اشتراط توقيت ما بين ‮٥‬‭ ‬الي ‮٧‬‭ ‬دقائق فقط للاستماع للأصوات الأخري،‮ ‬يليه شاعر عامي‮ ‬من الجنوب‮ ‬يحاول تقليد الخال الأبنودي‮ ‬وقت ثورته ونضاله قبل أن‮ ‬يستأنسه النظام ويكون الخال البرجوازي‮ ‬صاحب البدلة المودرن والذي‮ ‬يشبه إلي حد كبير سكان مدينة نصر‮. ‬يعقبه شاعر آخر وآخر بعد ان‮ ‬يقدمه مقدم حفلة السمر‮.‬
القصة القصيرة‮:‬
القصة القصيرة للثوار داخل ميدان الشهداء تنتمي‮ ‬لفن الاقصوصة‮.. ‬كاتبة تلجأ إلي ورق الحائط فتكتب قصتها في‮ ‬سطور لا تزيد علي الخمسة أسطر‮.. ‬وأحيانا تدخل كاتبتها لترويها علي الثوار من خلال الاذاعة التي أسموها إذاعة الثورة‮... ‬وتحضرني‮ ‬قصة لكاتبة استمعت إليها وأنا أجاورها علي الرصيف كانت تحكي‮ ‬عن حيرتها في‮ ‬اختيار الحبيب والثورة‮.. ‬وكانت بلغة موسيقية كانت أقرب إلي القصة القصيدة بحسب كتابات الكاتب محمد المخزنجي‮.. ‬وقد اختارت بطلة القصة طريق الثورة عن الحب واختتمتها بجملة واحدة‮ "‬ليس فارقا معي‮ ‬ان تعايرني‮ ‬اني‮ ‬نمت علي الرصيف‮".‬
متسحبا ومتنقلا بين الجموع ما بين ناعس ومتيقظ أطفال ورجال ونساء‮.. ‬نمر علي واحد‮ ‬يجالس مجموعة من الثوار وهو‮ ‬يعزف بالناي‮ ‬لحن موسيقي فيلم البريء‮.. ‬وواحد آخر‮ ‬يقرع بأصابعه علي الدف أغنية‮ ‬يا بيوت السويس‮ ‬يا بيوت مدينتي‮.. ‬أستشهد أنا وتعيشي‮ ‬انت‮".. ‬أناس متلحفون ببطاطين فقيرة باهتة وآخر‮ ‬يصطحب طفلة وواحد بغمس‮ ‬يده في‮ ‬صحن الفول ليسد رمق الصقيع‮.. ‬هنا ابتكر الثوار من الفوم لافتات ترشدك إلي الوحدة الطبية التي‮ ‬يداوي‮ ‬فيها المجروحون من فلذات كبد الوطن‮.. ‬يتجمع ثوار حول شيخ أزهري‮ ‬معمم في‮ ‬العقد الثالث من عمره‮ ‬ينتقد لهم أساليب الوهابية ودعوتهم الفاشلة بعدم الخروج عن الحاكم وغمسهم للسم في‮ ‬العسل‮.. ‬يتسحب الليل كابيا لكنه مشرق بوجوه الثورة وأبنائها الذين اشعلوا النيران للتدفئة‮.‬