عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

بريد الوفد..أربعة مشاهد للغربة

بوابة الوفد الإلكترونية

< مشهد="" أول:="">

مثل هذه الأيام منذ سنوات عدة، كنت بمدينة الرياض، قسوة المناخ الجاف وعبثية الحلم بوطن عربى يملؤنى بالنشوة من المحيط إلى الخليج، بدأت الفكرة بالصدام مع موضوع الكفيل والعمل وشروطه، لكن أنسانى ذلك استعداد زملائى للحج، قلت فى نفسى هل يمكن أن أفعلها مثلهم؟!، أنا ذلك الشخص الآثم نفسه والمغبرة روحه، هل يمكن أن يذهب ليلقى الله فى هذه النفس التعسة، كنت متردداً، ودفعنى زملائى دفعاً لا أعلم مبتغاه، ووجدتنى أتوجه إلى زميل قديم يجمع اشتراك حملة الحج، كنت قادماً إلى هذه البلاد هارباً من هزائم مجانية قديمة، باحثاً عن معادل السلام النفسى ...كلما تداعت إلى أذنى تكبيرات الاحرام منطلقة من المذياع تذكرت هذه الأيام، ورحلة الحج التى قصدتها بحثا عن اليقين وراحة تسكننى بعد تعاسات السجن القاسية ....تحضرنى الان كل الذكريات لهؤلاء المسنين الذين كانوا يتصببون عرقا أثناء الرحلة المقدسة، تداهمنى ذكرى رجل عجوز أغلب الظن انه اندونيسى الجنسية كان يمشى على مهل وظللت ارقب صموده وهو يسير بين الجبال بملابس الاحرام حتى سقط مرة ثم مرة متدحرجا، وللعجب كلما اقتربت منه لأساعده على النهوض وجدته ينهض مبتسما ويتحدث بعربية مدغدغة «جايلك يا حبيبى ...أتدحرج من وهنى لعلك تمسح بكل سقطة زلاتى، فأنا أعلم انك تريد ان ترانى كطفل لم يمس ثوبه الدنس» كنت شغوفاً بمتابعته، أرقب روح الله فى تعبيراته وانسجامه مع كل عثرة يتعثرها رغماً عنه لوهنه.

ومرة اخرى التقيت برجل مسن كان قد سقط مغشياً عليه ونحن فى طريقنا الى مكة عقب رمى الجمرات، وجدتنى أتوجه اليه مسرعا، لم يكن الرجل عربيا، وشهدت نفسى تتوجه الى فمه وتمده بقبلة الحياة، بينما يدى تفرك صدره لعلها تفتح مسام روحه لإعادة الانتعاش له، مع كل زفير من فمى كان يبتسم، متحدثاً بلغة لا افهمها عرفت بعدها انها لغة الأوردو.لكننى استيقظت من انشغالى به على وجه ملاك .كانت تقف الى جانب والدتها، آسيوية العينين، تبكى فى صوت مسموع لمنظر الحاج، كانت الى جوارى وقد اخرجت منشفة من حقيبتها وجلست الى جواره تمسح عرقه وهى تبكى، ظننت فى البدء انها ملاك جاء ليبعث الروح فى الحاج المسن .رمقتها بعينى فسبحت الله لهذا الجمال البشرى المتجسد الى جوارى، بينما يدها تسرى برفق كينبوع ماء صغير يمد الجسد بالحياة، أو كأنها العذراء مريم اقتبست من مسيحها معجزة احياء الموتى باذن الله، ظللت مشدوها بينما يد صديقى تدفعنى فى كتفى، «يا حاج ...قوم الرجل فاق لنكمل طريقنا الى الحرم»، ودعتها منصرفاً فى قمة ألمى لانى لم احدثها ولم اعرف الى اى البلاد تنتمى .بينما عينها المغرورقة بالدمع تشير لى بابتسامة لها طعم السحر الذى يتخلل الروح ...وتردد صدى تلك الكلمة فى أذنى «افسح طريق يا حاج ...افسح طريق يا حاج».

     •     مشهد ثان:

هى وأنا ..كمليكة لتوها خارجة من كتاب تاريخ عربى، نسير وثالثنا شاطئ الخليج .

انا وهى ...ببشرتها البيضاء وشعرها الأشقر وعين بنية كحورية من حوريات الجنة .

قالت وهى تجاورنى :

أسعى بحثا وراء رجل القطار الذى اتخيله كل يوم.

قلت : رجل القطار ؟

قالت : نعم هو الذى إخاله وأرسم كل يوم شيئاً من ملامحه .هل بإماكنك أن تكون رجل القطار؟

قلت: القطار فى بلدى ركبته مراراً، لكنه قطار مختلف عن قطارك الاسطورى، قطار وطنى قطار يلقبونه بالدرجة التالتة، يسكنه البسطاء والفلاحون وأصحاب الحاجات قاصدين القاهرة...قطار يرتاده معذبون قاصدين الحسين والسيدة ويبكون ذويهم الذين رحلوا.

قالت: سأمنحك الفرصة و ساعدنى لكى تكون رجل القطار.

قلت: فى وطنى حلمت وتألمت ثم أجهضت أحلامى فجاورتك هنا على شاطئ الخليج .أخشى أن أرهقك؛ فلست مؤهلاً كما الماضى لارتياد القطارات والقفز بين عرباتها.

قالت: أنا وأنت غرباء على شاطئ الخليج ....هويتنا هناك فى أوطان بعيدة...لتكن انت رجل القطار.

ثمة صورة تتدلى فى برواز مذهب تلمع على صفحة صدرها،

قلت: هذا الرجل يشبه عبدالناصر.

قالت: لست مؤهلاً للحديث عن هذا الرجل طالما لست أنت رجل القطار.

قلت: أنت شقراء كولادة بنت المستكفى ...وأنا هارب من حلم قديم ووطن راهنت عليه وصحبة أغوتهم الحياة فتناسوا كوب شاى ونضالاً قديماً اقتسمناه سوياً ...لم يعد بمقدورى الركض وراء قطارك.

قالت: لست مؤهلاً لأن تكون رجل القطار فأحبك.

قلت: وماذا يعنى عندك الحب؟

قالت: حين تكون رجل القطار سأكون أسيرتك.

هى التى تجاورنى وآلاف الأعين تتلصص لتسرق صورة تلقطها شبكية العين.

قلت: أحلامى القديمة ضلت عنى ..وأخشى أن أرهقك.

قالت: سأدعوك لنحتسى القهوة هناك ...فى الوطن البعيد والقارة التى لا تعرف عنصرية.

وسأحررك من الماضى.

أفلتت بالونة حمراء من يد طفل صغير، جرت

المليكة بشعرها الأشقر لتلحق بالبالون الذى أفلت للريح ....جرت ...أسرعت خطوتى محاولاً تبين ملامحها بين الزحام البشرى على شاطئ الخليج، لهثت من الركض، اختفت ملامحها مع اختفاء حراك البالون.

انحنيت ألتقط أنفاسى... وهى تلاشت بعبيرها كنسيم مر ثم مضى... مسترجعاً صوتها الملائكى بنبرته الوديعة الحانية تتخلله لدغة طفل لا يزال فى المهد ... رجل القطار والوطن وحلم قديم منسى وعلبة دخان محلية الصنع وأصدقاء أغوتهم الحياة ...عائداً بمفردى ... دون أن تكون معى الشقراء والرجل الذى يشبه عبدالناصر.

 

     •     مشهد ثالث:

رغم لغتها الرمزية المموهة ..أجدها تشدنى لعالم أجهل كل معالمه, حين أحادثها يتبدى صوتها طفلة هادئة الملمح ترغب فى عناق البحر والشراع والتقاط صورة بجوار سمكة ملونة .تلك التى تسكن بعيدا وترحل بعيداً ... حالمة ومستبدة وديعة ومتجبرة مقدامة ومتقهقرة ...هى التى تسكن دياراً غير ديارى وتألف أناساً غير ناس بنى وطنى ..هى التى تنفلت من بين أصابعى حين تستشعر عناقى لها, تنفلت مثل انفلات صورة بخار الماء أمامنا، وحين احكم حصارى لها تهرول وبيديها دميتها المفضلة تختفى بها عن الانظار وتنشد عالما لا أحد فى العالمين يعرفه ...هى التى سيطرت على مخيلتى وطبعت على الروح ايماءة حزن لم اعهده قبلاً فعزفت عن اكتشاف من احادثه بقدر اهتمامى بمشاركتها عالمها ..عالمها ...ذلك الكهف المعزول عن كل العوالم التى ارتأيتها ...هى ..إخالها ساعة غجرية الشعر تجرى وبيدها مشروب القهوة المثلجة التى تعشقها وتضحك فى صخب ومرة إخالها رصينة الملمح بكوفية عنق بنية تلف رقبتها وتسير فى سكينة ...هى هذا وهى ذلك ...وأنا فى مخيلتى المغتربة أنفث تخيلاتى فى دخان سيجارة ثم سيجارة ساكناً الغياب إلى أن تحضر...هى وأنا .....بخطى متوازية تسير إلى جوارى .حين أبحرت فى الذاكرة أمس عاينتها, ملامح عينها العسلية وقامتها التى تقصرنى قليلاً ..عنادها إذا أصرت، قبضها على يدى وقت التأنيب والفرح والإبهار والغضب ...لون نقاء وجهها.

تفصلنا مسافات بعيدة بعيدة ...وجدتنى أحادثها على رقمها القديم ...رد الصوت ناعساً شغوفاً عبر لوحة أصفار تفد من بلد غريب عن البلد .كان الصوت وكان ليل الرياض بجبروته وقسوته وجنونه وتمرده.

قالت من؟

لكنى لم أقوَ على النطق أو الهسيس

 

     •     مشهد رابع:

لم يشتر كتاباً منذ عامين... قالت له رفيقته وهما متوقفان أمام مكتبة تمر على كومة من ذكريات تجمعهما ...لنقترب سوياً لعلك ترى كتاباً يبهرك مثلما اعتدت منك... كان ينفث السيجار بضجر، قال لنفسه: «الكتب ثانية، لم تفلح الكتب فى تجربة الغربة والترحال والسجن، ما عساها ان قدمت لدىّ، مر على عناوين براقة لأسماء التقاها واحتسى معها قهوة بمقهى باب اللوق الشهير، امتدت يده من كتاب لكاتب يقدره وينتمى الى موطنه فى الدلتا يوم غائم فى البر الغربى تذكر مرارات الرجل فى روايته القديمة «انكسار الروح»..قال له غلامه آتنا غداءنا أبى «تحسس جيبه»...سأل عن سعر الكتاب أخبره البائع بأن الثمن خمسون جنيهاً ...دس يده فى جيبه، تأمل الورقة الوحيدة وصحب غلامه إلى شاطئ البحر يبتاع له كوز من الذرة المشوى.