رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

المهندس المصرى الذى صمم الحرمين الشريفين ورفض أن يأخذ أجراً

بوابة الوفد الإلكترونية

أن تكون شخصاً لا يعشق الأضواء لا يعنى أبدأَ أنك غير موجود، بل ربما تكون أهم شخص بينهم. لذلك دعونى أحكى لكم قصة الرجل الذى عاش مائة عام، وعشق الخطوط والبناء، وحمل ألقاباَ جميعها عظيمة، وربما كان أكثرنا لا يعرف عنه شيئاً. ولأن الشىء غالباً بالشىء المرتبط به يذكر، فأنا أشعر أن دعوتنا جميعاَ بأن يكتب لنا الله فرحة زيارة بيته الحرام فى مثل هذه الايام من الأعوام القادمة ــ إن كان لنا عمرـ ليست فقط من أجل إسقاط الفرض، إنما من أجل راحة النفس التى استهلكتها الحياة، أشعر أن هذه الدعوة وإن كانت متجددة دائماً، إلا أنها ترتبط أكثر بالمشهد المهيب الذى نراه كل عام فى بيت الله الحرام، وهذا البناء الذى يكاد ألا يكون له شبيه على وجه الكوكب.

وأول سؤال سوف يخطر فى بالنا نحن المصريين الغلابة بعد الدعوات، يا ترى المهندس اللى صمم وأشرف على البناء العظيم ده أخذ كام؟ ويا ترى جنسيته إيه؟ لكن المفاجأة السارة فى الإجابة عن هذه الأسئلة، أن هذا المهندس مصرى، وأنا بالأصالة عن نفسى سوف أطلق عليه «الباشمهندس» لا أعرف تحديداً من أين جاء هذا اللقب، ولكن يبدو أنها كلمة تركية، والأكيد أنها تعنى كبير المهندسين، على كل حال ليس لدى فرصة الآن لأبحث عن أصل الكلمة، لذلك سوف أكتفى بتخميناتى عنها.  المهم، أن هذا المهندس المصرى رفض أن يتقاضى أى أجر عن مشروع أنفق فيه أغلب سنوات شبابه بل سنوات عمره، واكتفى بأن يكون مقابله عن هذا العمل، مجاورته للبيت الحرام، فقد رفض أخذ أى مقابل للتصميم الهندسي والإشراف المعماري اللذين قام عليهما للحرمين المكى والنبوى، وعندما وضع الملك فهد بن عبد العزيز أمامه شيكاً بالملايين، كانت أجابته: «آخد فلوس على الحرمين الشريفين أودى وشى من ربنا فين»، فما كان من المملكة السعودية إلا أن تمنحه جائزة الملك فهد للعمارة وتكرم إقامته فيها طيلة حياته.

إنه المهندس والمعماري المصري الدكتور محمد كمال إسماعيل، الذى لم تختره دولة الحرم ليشرف على واحدة من أكبر مراحل توسيعات الحرمين الشريفين فى التاريخ الإسلامى على امتداد 14 قرنا، إلا بعدما ملأ اسمه الأرض والسماء فى الوسط المعمارى العالمى فى النصف الأول من القرن العشرين، عندما قدم إلى المكتبة العربية والعالمية موسوعة مساجد مصر في أربعة مجلدات، عرض فيها لتصميمات المساجد المصرية وطرزها وسماتها المعمارية التي تعبر كل منها عن مرحلة من مراحل الحضارة الإسلامية، وقد طبعت تلك الموسوعة فيما بعد في أوروبا ونفدت، ولم يعد منها أي نسخ سوي في المكتبات الكبري.

فى الواقع، إن لكل مجتهد نصيبا، ونصيب المهندس «اسماعيل» من هذه الموسوعة كان منح الملك فاروق له رتبة البكوية ووشاح النيل، وكان أصغر من حصل عليهما وقتها، والأهم كان ترشيحه للإشراف على توسعة الحرمين الشريفين، بعدما قرأ الملك فهد بن عبد العزيز موسوعته العالمية واطلع عليها.

والمهندس الدكتور محمد كمال إسماعيل من أبناء محافظة الدقهلية مدينة ميت غمر، وأنا أوقن أنه من أصل فرعونى ورث عن أجداده فن العمارة وعالمها ودهشتها، فكان أصغر من حصل على الثانوية في تاريخ مصر، وأصغر من دخل مدرسة الهندسة الملكية الأولى، وأصغر من تخرج فيها فى دفعة كانت تتكون من سبعة طلاب، قام على تدريسهم مهندسون من انجلترا وسويسرا، كما كان أصغر من تم ابتعاثه إلى أوروبا للحصول على شهادة الدكتوراه في العمارة، وأول مهندس مصري يحل محل المهندسين الأجانب في مصر.

فبعد حصوله علي بكالوريوس الهندسة من جامعة فؤاد الأول في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، سافر إلي فرنسا للحصول علي الدكتوراه التي حصل عليها للمرة الأولي في العمارة من مدرسة بوزال عام 1933، ليكون بذلك أصغر من يحمل لقب دكتور في

الهندسة، تلاها بعدها بسنوات قليلة بدرجة دكتوراه أخرى في الإنشاءات، ليعود إلي مصر بعدها ويلتحق بالعمل في مصلحة المباني الأميرية التي شغل فيها منصب المدير العام فى 1948، وكانت المصلحة وقتها تشرف علي بناء وصيانة جميع المباني والمصالح الحكومية، لتصمم يداه العديد من الهيئات  والأبنية التى مازالت شاهدة على عبقريته الهندسية الفريدة، ومنها دار القضاء العالي، مصلحة التليفونات، ومسجد صلاح الدين بالمنيل. ومجمع التحرير الذي أنشئ عام 1951 بتكلفة 200 ألف جنيه بالنسبة للإنشاءات، ومليون جنيه، بالنسبة للمباني التي بلغ ارتفاعها 14 طابقا، وكان لتصميم المبني علي شكل القوس دور في تحديد شكل ميدان التحرير، وما تفرع منه من شوارع علي حد وصف المعماريين.

وفى الحقيقة، إن الدكتور «اسماعيل» بشهادات جميع المهندسين الذين رافقوه فى رحلات عمله، والتى كتبت فى أكثر من مكان، لم يكن يوماً سهلاً أو ليناَ فى عمله، بل كان دقيقا جدا في التصميم وفى الإشراف وكان لا يجامل أحدا أبدا في عمله. قال عنه الدكتور علي رأفت أستاذ العمارة بجامعة القاهرة، ومصمم مكتبتها الحديثة فى أحد تصريحاته: «عِشق أستاذنا محمد إسماعيل للعمارة برز في سمات خاصة تخص أعماله كالأقواس والزخارف والأعمدة والأفنية الداخلية التي تحتوي علي سلالم، وهو ما يتضح في بنائه مثلاً لمجمع الجلاء الذي بناه علي شكل قوس، وجعل له فناء داخليا رائعاً».

 ورغم أن كل تصميماته التي تركها وراءه سوف تظل تتحدث عنه وتخلده، إلا أن عملية توسعة الحرمين المكي والنبوي التي كلفه بها ملك السعودية الراحل فهد بن عبد العزيز، تظل الأهم والأبرز في مسيرته المعمارية، ويرجع ذلك  لضيق المساحة والحيز الذي يمكن لأي مهندس التعامل من خلالهما، ومع ذلك تمت توسعة الحرم النبوي بمعدل سبعة أضعاف لتزيد مساحته من 14 ألف متر مربع إلي 104 آلاف متر مربع، بينما تمت توسعة الحرم المكي لتزداد من 265 ألف متر مربع إلى 315 ألف متر مربع، وهي التوسعات التي لم تتضمن فقط توسعة الحرمين، ولكنها شملت مشروعات تكييف المكان وتغطيته بالمظلات والقباب، وجراج للسيارات يسع لنحو 5000 سيارة تحت الأرض.

وكعاشق للبناء، لم يتزوج شيخ المعماريين المصريين إلا في سن  44 وأنجب ابنا واحدا أنجب له حفيدين، وفي عام 2002 رحلت زوجته، ومع رحيلها رحل أغلب أصدقائه، فعاش وحيدا متفرغا للعبادة حتى جاور أحبابه وهو على عتبة المائة عام، تلك التى قضاها في خدمة البناء، خاصة الإسلامى منها،  بعيدا عن الإعلام والأضواء والشهرة والمال. فسلاماَ إلى روحه.