أحمد سيد النقشبندى: أبى عاش ومات عاشقاً للأولياء والفقراء
الرئيس السادات طلب منه أن ينشد على ألحان بليغ حمدى
ولد فى الدقهلية وتربى فى سوهاج وعاش ومات فى الغربية
د. مصطفى محمود وصف صوته قائلاً: صوته نور لم يصل إليه أحد غيره
مولاى إنى ببابك
أدعوك يا رب فاغفر ذلتى كرما
واجعل شفيع دعائى حُسن مُعتقدى
وانظر لحالى.. فى خوف وفى طمع
هل يرحم العبد بعد الله من أحد؟
<>
ذات مساء من عام 1972، وقف الرئيس محمد أنور السادات- كأى أب - سعيداً بزفاف ابنته. كانت تقف بجواره السيدة جيهان السادات فى استقبال ضيوف الفرح، الذى أقيم فى استراحة الرئيس بالقناطر الخيرية، ومن بين مئات الشخصيات العامة المدعوة للحفل، لمح «الرئيس» الشيخ سيد النقشبندى، أحد أجمل الأصوات التى صنعت مجد الإنشاد الدينى فى مصر والوطن العربى، بعد دقائق ووسط الزحام وكلمات التهانى التى تنهال على أسرة الرئيس، أوعز السادات لأحد العاملين فى سكرتارية الرئاسة الذين يشرفون على الحفل، أن يأتى له بالشيخ النقشبندى وبالعبقرى بليغ حمدى.. ومعهما الإذاعى وجدى الحكيم، وهم جميعاً «معازيم» فى الفرح.
<>
بعد دقائق أخرى، كان الثلاثة أمام السادات، الذى وجه كلامه لبليغ قائلاً: «عاوز اسمعك مع النقشبندى». سكت بليغ وهز رأسه، ثم نظر السادات إلى وجدى الحكيم بصفته كان مسئولاً وقتها فى الإذاعة، وقال: «متى نسمع ألحان بليغ تخرج من حنجرة الشيخ يا حكيم»؟ هز الثلاثة رؤوسهم، واعتبروها مجاملة ظريفة من الرئيس فى ليل فرح على نيل القناطر.
<>
بعد أيام رن جرس الهاتف فى منزل الشيخ، على الجانب الآخر وجدى الحكيم، يطلبه ليزوره فى الإذاعة، فى الموعد المحدد بينهما كان فى مكتبه، طلب منه «الحكيم» التوجه للأستوديو المجاور، حيث هناك بليغ حمدى يجهز أحد الألحان للتعاون معه. فى البداية انزعج الشيخ، وقال: «على آخر الزمن هنغنى يا وجدى»؟ ابتسم ورد: هل نسيت رغبة الرئيس يا مولانا؟ صمت الشيخ، وقال: أظنه كان يجاملنا نحن الثلاثة وقتها، رد: لا.. الرئيس يحب الإنشاد، ويحب موسيقى بليغ، قال الشيخ: أنا لست مطرباً. فقال «الحكيم»: يا مولانا إذ لم يعجبك اللحن لا تقبله، رد الشيخ: ولكن كيف يحدث هذا؟ رد «الحكيم»: هيا بنا نذهب للأستوديو، وأتركك تسمع اللحن لمدة 30 دقيقة، فإذا أعجبك «اخلع» عمامتك وضعها بجوارك. فقال الشيخ: «وإذا لم يعجبنى»؟ رد: لا تخلعها، واجلس كما أنت، وسنترك «بليغ» لألحانه.. ونعود معاً إلى مكتبى هذا نحتسى فنجان قهوة آخر، وبعدها تعود إلى منزلك، اتفقنا.. على بركة الله، اتفضل. ويقول «بليغ»: إن الكهرباء انقطعت فى الأستوديو!
فى الطرقة المؤدية للأستوديو.. تحركا معاً.. باب الاستوديو مفتوح، من وراء الباب «الموارب» تتسلل نغمات ألحان بليغ، الشيخ بدأ ينتبه، يركز، يعدل فى عمامته، على أقرب كرسى داخل الأستوديو جلس، «بليغ» مستمر فى ألحانه بصوته أحياناً، الشيخ ما زال يعدل فى عمامته، مرة ناحية اليسار، ومرة ناحية اليمين، وجدى الحكيم يركز معه. ودون استئذانه تركه وعاد إلى مكتبه، الاتفاق بينهما ما زال قائماً، إذا أُعجب الشيخ باللحن «خلع» العمامة، ووضعها بجواره، وإذا لم يعجبه ظلت العمامة على رأسه.
غادر «وجدى الحكيم» الأستوديو، الشيخ ما زال يهز رأسه، يدندن بصوته، و«بليغ» تتجلى جمله الموسيقية على كلمات «مولاى إنى ببابك» بعد 30 دقيقة عاد وجدى الحكيم ليجد الشيخ - من شدة إعجابه باللحن - لم يخلع العمامة فقط ويضعها بجواره، بل إنه «خلع» القفطان الذى يرتديه، وجلس بجلبابه الأبيض يردد: الله.. الله.. يا عم بليغ، ثم نظر إلى وجدى الحكيم الذى وجده فجأة واقفاً بجواره يبتسم وقال له: «يا وجدى.. بليغ ده جن»، فضحك وجدى وقال: «البس عمامتك يا مولانا.. الرسالة وصلت»!
ليكون هذا اللحن هو بداية التعاون بينهما والذى أنتج لنا ما يقرب من 15 دعاء وابتهالاً من أروع ما قدم الشيخ النقشبندى من أدعية وابتهالات.. والسبب هو رغبة السادات خلال فرح ابنته.
<>
فى هذه الحلقة من حلقات «أبى.. الذى لا يعرفه أحد».. ذهبت إلى لحن من ألحان السماء.. إلى حنجرة إيمانية، تملأ القلوب والآذان راحةً وسكينة وخشوعاً، إنها حنجرة الشيخ المبتهل سيد النقشبندى، اتصلت بابنه الشيخ أحمد، اتفقت على اللقاء، هو يعيش فى محافظة الغربية غرب الدلتا، يسكن بالقرب من شارع المحطة، وصلت إلى هناك ذات مساء.. أذان العشاء يلف المدينة، مئذنة مسجد الشيخ السيد البدوى تنشر على ربوع الإقليم بركاته، وصلت للشارع.. صعدت لمنزله.. دخلت إليه بعدما استقبلنى بابتسامة فيها هدوء ورضاء وسكينة، جلسنا بالقرب من مجموعة صور معلقة على الحائط وفى قلبها صورة كبيرة للأب.
قلت له: ما الذى لا نعرفه عن مولانا النقشبندى كإنسان؟ رد: كان الحنان والخشوع والتواضع والإيمان والوصل المتصل بالله. كان «رحمة الله عليه» آية من آيات خلقه، وكان صوته لحناً من ألحان السماء، وهو طفل صغير انفصل أبوه عن أمه، وتزوجت أمه برجل آخر، وتركت محافظة الدقهلية، وانتقلت للعيش مع زوجها فى الصعيد، وتربى الشيخ هناك، وعندما كبر، عاد إلى أبيه، وكان يعيش معه فترات طويلة، وهذا يدل على إنسانيته، والبر بوالده فى أن يكون بجواره، وكان أبوه يحبه كثيراً، فلم يغفل عنه رغم انفصاله عن والدته، كان يحب الفقراء ولا يحلو له الجلوس إلا معهم والعيش معهم.
اسمه سيد محمد النقشبندى، ولد فى 12 مارس 1921 وكلمة «نقشبندى» مكونة من قطعتين هما «نقش» و«بندى» ومعناها فى اللغة العربية هو القلب أو نقش الحب على القلب، والنقشبندى نسبة إلى فرقة من الصوفية.
ولد فى قرية «دميرة» بمحافظة الدقهلية، انتقل مع أمه إلى مدينة «طهطا» بمحافظة سوهاج بالصعيد، حفظ القرآن الكريم وعمره 8 سنوات، تعلم الإنشاد الدينى فى حلقات الذكر، كان يتردد على موالد الصعيد كلها.. عام 1955 استقر فى محافظة الغربية، وذاعت شهرته فى مصر والوطن العربى.
من أشهر أعماله «يارب كرمك علينا، ربنا، ليلة القدر، النفس تشكو، مولاى، أيها الساهر». وصف الدكتور مصطفى محمود صوته بأنه مثل النور الكريم الفريد الذى لم يصل إليه أحد، تزوج مرتين وله من الأولاد ثمانية.
<>
عدت للابن الذى جاء لى بفنجان قهوة وجلس يكمل كلامه.. أبى لم يكن له إخوة أشقاء، كلهم كانوا إما إخوة من الأب أو إخوة من الأم، لكنه كان يعتبرهم جميعاً إخوة أشقاء لا فرق بينهم فى أى شىء، وجاء حبه لمدينة طنطا؛ لأنه كان يزور أباه هنا، ووجد فيها الكثير من أولياء الله الصالحين، ومنهم مقام سيدى الشيخ السيد البدوى.
تزوج ابنة خاله، وعاش فى طنطا بجوار أولياء الله.. وعندما ذاع صيته فى مصر والعالم العربى والإسلامى، وطُلب منه أن ينتقل للعيش فى القاهرة حتى يكون بالقرب من وسائل الإعلام والحفلات الدينية، رفض أن يغادر من جوار أولياء الله، وقال أعيش هنا، وسأموت هنا.
- يارب كرمك علينا
- يا رب نصرك معانا
- يا رب كرمك علينا.. ونصرك معانا
- ونظرة بعطفك تثبت خطانا
- يارب كرمك علينا.. ونصرك معانا
قلت له: هل كان له رؤية محددة فى تربية أولاده وتعليمهم، ومن ثم فرض رأيه عليكم فى شىء؟! ابتسم وقال: أنا على سبيل المثال كنت أحب الالتحاق بكلية دار العلوم، وهو كان له نفس الرغبة، لكنه لم يفصح لى عن رغبته، وانتظر حتى قدمت أوراقى وعدت من القاهرة، يومها قلت له.. فابتسم، وقال «كانت هذه رغبتى، لكننى أردت أن أترك لك حرية الاختيار، ولا أتدخل فى شىء».. ثم أكمل قائلاً: «كانت هذه طريقته فى التعليم والتربية، لم يحب الشهرة، ولم يحب جمع المال، وكان يذوب عشقاً فى الوصول والاتصال بالمديح الذى كان يربطه برب السماء، وأذكر فى حفلات الإنشاد التى كان يذهب إليها، وكنت أحضر معه، أننى كنت أرى مريديه يبتهلون ويبكون ويهتفون معه من قلوبهم لله وللرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، ودموعهم تتساقط، وأجسادهم ترتعد من حالة التجلى التى كانت تخرج من حنجرة الشيخ».
قلت له: أيامه الأخيرة فى الحياة..
<>
- مولاى إنى ببابك قد بسطت يدى
- من لى ألوذ به إلاك يا سندى
- أقوم بالليل والأسحار ساجية
- أدعو وهمس دعائى.. بالدموع ندى
.. وفى يوم السبت 14 فبراير 1976 فاضت روح الشيخ إلى ربها، وعاد الجثمان إلى جوار والدته بالقاهرة.. يومها محافظ الغربية عندما علم من بعض المصادر أن الشيخ وهو عائد من القاهرة ومر على سرادق كبير كان مقاماً قبل وفاته بليلة وأعجب به، أمر المحافظ بأن يبقى السرادق على حاله، ويقام فيه عزاء الشيخ، وكأنه اختاره بنفسه لنفسه وهو حى، وهكذا هم العاشقون الواصلون المؤمنون الصادقون مع ربهم.. فقلوبهم.. لها عيون ترى ما لا يراه الآخرون.. ولقد رأى الشيخ النقشبندى خاتمته ولحظة رحيله من فرط صدقه مع الله.. ومن يصدق مع ربه.. ويصدق فى قوله.. ويصدق فى عمله.. يصدقه الناس.. ويعشقه الناس.. ويدوبوا عشقاً وإيماناً وتصديقاً لكل ما يخرج من حنجرته.. لأنهم يدركون أن ما يقوله.. هو حالة وصل صادقة مع الله.
<>
نعم مات الشيخ النقشبندى.. لكنه ترك لنا رسالة مفتوحة للسماء بصوته نرسلها كل صباح بقلوبنا وعقولنا وضعفنا وخوفنا.. يقول فيها ونحن نسمعه.. يا رب كرمك علينا.. يا رب نصرك معانا.