عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

خدعة «المحروقى»

بوابة الوفد الإلكترونية

شهبندر التجار الذى «رشا» العلماء وزور فى الأوراق الرسمية ليستولى على ميراث فتاة

كان يسيطر على التجار وأصحاب الحرف ويفرض سلطة مطلقة عليهم

كيف دعم الباشا تحالفاته مع رجال المال والتجارة وصنع نخبة جديدة من حوله؟

 

ليست هذه زيارة جديدة للتاريخ لكنها نزهة فى سنوات حكم والى مصر الأعظم محمد على.

قراءة محبة لحقبة بالغة الأهمية فى تاريخ المحروسة، نقلتها من عصر إلى عصر، بفضل همة والى وجسارة شعب، فلم يكن ممكناً لحاكم مهما بلغت قدراته وتسامقت أحلامه، أن يحقق شيئاً دون شعب تمتد جذوره إلى ما قبل التاريخ، عرف الحضارة والمدنية وقت أن كانت الدنيا ترزح فى غمامات من الظلام والهمجية.

هذا ما أدركه محمد على نفسه حين بدأ تكوين جيشه -الذى كان نواة مشروعه التحديثى- اعتمادًا على عناصر غير مصرية، لكنه سرعان ما انتبه إلى أن هذا الجيش، لا يمكن إلا أن يكون مصرياً، ولا يمكن لجنوده إلا أن يكونوا من أبناء الفلاحين.

تقول أوراق القضية إن تاجراً تركياً كان يقيم فى القاهرة توفى وكان له ابنة هى وريثته الوحيدة. ترك الرجل ثروة تقدر بستة آلاف كيس من النقود، وعلم شهبندر تجار القاهرة محمد المحروقى بالأمر، فسارع إلى إغواء خادم يعمل لدى تاجر كبير، وأغراه بثلاثمائة قرش إن هو شهد زوراً بأنه ابن أخ المتوفى، ما يجعل له نصيباً معتبراً من الميراث (النصف تقريباً).

وكى يضمن أن تمر خدعته، سارع «المحروقى» أيضاً إلى العلماء الذين استدعاهم القاضى للمشورة فرشاهم أيضاً، وأمام القاضى، أقسم الخادم بأغلظ الأيمان أنه ابن أخ المتوفى وأمّن العلماء على كلامه، فحُكم بأن يتقاسم الاثنان، الابنة والخادم، ثروة المتوفى، فحصل الخادم على ثلاثة آلاف كيس لم ينل منها سوى ثلاثمائة قرش وذهب باقى المبلغ كله لـ«المحروقى».

 كان مفتى الديار الشيخ محمد المهدى غائباً عن القاهرة أثناء نظر القضية، فلما عاد ذهبت إليه ابنة المتوفى تشكو ما لحق بها من ظلم، فوعدها بالاطلاع على ملف القضية، فلما فعل ذهب إلى الوالى وأبلغه بارتكاب المحكمة أخطاء فادحة فى نظر القضية ما أدى إلى ظلم الفتاة، فأمر الباشا باستدعاء القاضى والعلماء الذين نظروا القضية، وكذلك شهبندر التجار الذى كان وثيق الصلة بالوالى، وحضر الجميع إلى القلعة.

وأمامهم بسط المفتى أوراقه ووجّه إليهم اتهامات واضحة بظلم الفتاة فرفضوا اتهامه، وأخبره القاضى أنه قضى بحكمه فى حضور كافة العلماء الموجودين واستناداً إلى إجماعهم، لكن المفتى أصر على أن حكم القاضى جانبه الصواب ووصفه بـ«المزوّر».

هنا تدخل «المحروقى» وخاطب الشيخ المهدى: يا شيخ مهدى احترم العلماء كما يحترمونك. فرد عليه المفتى فى حزم: ومالك أنت ومجالس العلماء، اذهب وتحدث فى مجالس التجار، لكن إياك ومجالس العلماء، فغادر «المحروقى» على الفور، وقد علم أن الشيخ المهدى عازم على كشف دوره فى القضية.

ثم بدأ الشيخ المهدى يقرأ على العلماء من كتيب صغير كان بحوزته، الشروط الواجب توافرها للتأكد من نسب الوريث للمتوفى، وأهمها الاطلاع على اسم الأب والأم والجد، وهو ما تغافل عنه العلماء حتى يثبتوا نسب الخادم وحقه فى الميراث، وأعلن الشيخ المهدى أن الحكم بهذه الكيفية يعد باطلاً.

وقبل أن ينكشف أمره بعد إصرار المفتى على موقفه، سارع «المحروقى» إلى التاجر الذى يعمل الخادم عنده، وأعطاه الثلاثة آلاف كيس ورجاه أن يذهب بها فوراً إلى المجلس، وأن يسلمها للمفتى ويقول إن خادمه وضعها عنده على سبيل الأمانة، وإنها تخص ابنة التاجر المتوفى. ولم يعاقب فى هذه القضية سوى الخادم المزوّر بالجلد، أما «المحروقى» والعلماء المرتشون، فلم يصبهم أذى.

لكن يظل السؤال: كيف صعدت طبقة التجار وكان لها كل هذا النفوذ؟

كثير من المؤرخين يؤكدون الصعود المتنامى لطبقة التجار منذ القرن السابع عشر، وقد سمح لهم هذا الصعود بالتحالف مع الأمراء المماليك خاصة بعدما نشطت التجارة العالمية واستفادت منها بطبيعة الحال الدولة العثمانية مترامية الأطراف باعتبارها جزءاً من سوق عالمى.

وبحلول منتصف القرن كانت أوروبا بحاجة إلى المواد الخام التى تنتجها مصر وباقى دول الشرق الأوسط، ولجذب هذه المواد الخام سعت أوروبا إلى تقديم حوافز مالية تفوق تلك التى تقدمها الدولة العثمانية، كما أن دول أوروبا كانت بحاجة - من ناحية ثانية - إلى أسواق واسعة لتصريف منتجاتها، وهو ما وفرته دول الإمبراطورية العثمانية.

من ناحية أخرى كان المماليك يسددون ثمن ما يشترونه من أسلحة من أوروبا فى صورة سلع تجارية، وحين سيطر الشوام المسيحيون على التجارة فى مصر، نشّطوا حركة التجارة باتجاه أوروبا أكثر فأكثر، بعد أن كانت الجزيرة العربية والدويلات المسلمة الخاضعة للإمبراطورية العثمانية هى وجهة التجار المسلمين.

وبحلول عام 1840، أصبحت أوروبا هى الشريك التجارى الرئيسى لمصر، وكان جزء كبير من التجارة يعاد تصديره، فكان ثلثا التجارة عن طريق البحر الأحمر يعاد تصديره إلى أوروبا وتركيا، وخُمس صادرات الشام إلى مصر يعاد شحنه إلى أوروبا وشمال أفريقيا، وسُدس الواردات الأوروبية يتجه إلى البحر الأحمر والسودان.

وكان «البن» هو مصدر الثروة الرئيسى للمشتغلين بالتجارة العابرة للقارات، وهو الذى منح هؤلاء التجار ثروتهم الكبرى، وكان التجار المصريون يحتكرون تجارة البن فى البحر الأحمر وحققوا من ورائه أرباحاً جاوزت 75٪، كذلك كانت تجارة المنسوجات مربحة جداً للمصدرين المصريين، وحينما تعرض هذان المنتجان بالذات «البن والقطن» لمنافسة أوروبية اختل الميزان التجارى بقوة لصالح أوروبا.

أما فى محيط الإمبراطورية العثمانية فقد كانت مصر الموّرد الرئيسى للبن والأرز للإمبراطورية يليهما القطن والمنسوجات، وقد تعرّضت المنسوجات المصرية لمنافسة شرسة من قبل المنسوجات الفرنسية التى غزت السوق المحلية للإمبراطورية بسبب التقدم التكنولوجى الذى جعل منتجها أفضل كثيراً من الفرنسية، فضلاً عن الإجراءات الحمائية التى فرضتها فرنسا على الواردات من المنسوجات المصرية وغيرها.

وإلى جانب اسم «المحروقى» يتكرر باستمرار فى يوميات «الجبرتى» اسمان بوصفهما ثواراً وقفا دائماً إلى جانب الجماهير وناصروهم فى مواجهة المظالم التى تعرضوا لها فى زمن المماليك والعثمانيين، حجاج الخضرى شيخ طائفة

الخضرية، وابن شمعة شيخ طائفة الجزارين وكلاهما شنقه محمد على بعد 12 سنة تقريباً من وصوله للسلطة برغم أنهما ساهما بقوة فى مجيئه للحكم، حين وقفا فى صف الجماهير وحاصروا القلعة وأقاموا المتاريس ووفروا الأسلحة للناس.

وحين وصل محمد على إلى الحكم طلب من العلماء أن يقنعوا الناس بتسليم أسلحتهم، لكن ابن شمعة وحجاج الخضرى رفضا فأضمرها الوالى فى نفسه وتخلص منهما حين واتته الفرصة.

يقول «الجبرتى» عن شنق «الخضرى»: فى ليلة الخميس طلب المحتسب حجاج الخضرى الشهير بنواحى الرميلة فأخذه إلى الجمالية وشنقه على السبيل المجاور لحارة المبيضة، وذلك فى سادس ساعة من الليل وقت السحور وتركوه معلقاً لمثلها من الليلة المقابلة، ثم أذن برفعه فأخذه أهله ودفنوه، و«حجاج» كان مشهوراً بالإقدام والشجاعة، طويل القامة عظيم الهمة، وكان شيخاً على طوائف الخضرية صاحب صولة وكلمة بتلك النواحى ومكارم أخلاق، ولم يزل على حالته فى هدوء وسكون، ولم يؤخذ فى هذه بجرم فعله يستوجب شنقه بل قتل مظلوماً لحقد سابق وزجراً لغيره.

أما محمد المحروقى شهبندر التجار فيرد بوصفه أحد الأعمدة التى قام عليها نظام محمد على وجزء أصيل من تحالفاته مع الطبقة الجديدة، وقد دعّم محمد على تحالفاته مع التجار على حساب حلفائه الآخرين من العلماء والملتزمين خصوصاً أن صدامه مع الأخيرين كان قريباً ومؤكداً بعد أن أصدر فى سنة 1809 أمراً بإخضاع أراضى الوقف للضرائب وقد كانت معفاة من قبل وكذلك أراضى «الوسايا» التى منحت للعلماء.

كان الشيخ «المحروقى» يحظى بثقة الوالى، ويذهب بعض المؤرخين إلى أنه هو من عرّف محمد على بدقائق الأمور فى المحروسة عند قدومه إليها، وأنه من أوعز إليه بالحملة على الحجاز ليستفيد من قوافل التجارة منها وإليها.

كان «المحروقى» ابناً لتاجر شهير كوّن ثروة طائلة من التجارة عبر البحر الأحمر، ولأنه أغنى التجار فقد صار رئيسهم «شهبندر التجار»، وورث الابن المنصب عن أبيه، وصار موضع ثقة الوالى، ورافق ابنه طوسون إلى الحجاز، وأوصى محمد على ابنه ألا يفعل شيئاً إلا بعد مشورته واطلاعه، ولا ينفذ أمراً من الأمور إلا بعد مراجعته.

وباعتباره شهبندر التجار، كان يسيطر على كل التجار وأصحاب الحرف، وله سلطة مطلقة عليهم، ومع حملة الحجاز عُيّن مشرفاً على قوافل البدو وعلى حمل وتفريغ السفن وتجهيز الجيش وإمداده بما يحتاجه.

كان «المحروقى» جزءاً أصيلاً من الحياة الاقتصادية والمالية فى زمن محمد على.

وقد كانت تحالفات محمد على الأولى التى اكتسبها وهو ضابط شاب قبل ولايته مصر، مع رجال لهم صلة بالمال والتجارة، وكان على رأسهم بطبيعة الحال المحروقى شهبندر التجار، وإبراهيم المويلحى، وهو تاجر له صلات وعلاقات تجارية قوية خارج حدود القطر وفى الحجاز خصوصاً، والمعلم جرجس الجوهرى رئيس الصيارفة الأقباط الذى كان يعرف بدقة كل شىء عن اقتصاد مصر، وكان هو وغالى سرجيوس من علّما الوالى كل ما يحتاج إليه فى أمور الضرائب وطرق تحصيلها، وساعداه على تكوين سلطة مركزية بديلة لنظام الحكم المملوكى الذى كان قائماً على اللامركزية.

لكن المؤكد أيضاً أن الوالى لم تكن له روابط دائمة تضمن له الولاء، ولا حتى بين العلماء الذين كانوا على استعداد لمساعدته فى جباية الأموال من الناس عند اللزوم لأن كثيرين منهم كانوا ملتزمين ومنهم السيد عمر مكرم نفسه، ولذا فإن الوالى لم يتورع عن نفى بعضهم بل وإعدام آخرين ممن ساعدوه على اعتلاء العرش فى البداية.

لقد أدرك محمد على منذ البداية فى لعبة التحالفات التى أجادها، أن القوة الصاعدة للتجار تستلزم أن يغيّر تحالفاته فى هذا الاتجاه، خصوصاً وقد اتضح أن مبيعات المواد الخام وتصديرها صارت مهمة، وربما هذا هو ما دفعه للاعتماد بقوة على باغوص الذى تحوّل من تاجر غلال ومترجم إلى وزير خارجية، لأنه شرح لمحمد على مزايا تصدير المواد الخام والتوسع فى هذه التجارة، وكانت بريطانيا والعديد من دول المتوسط سوقاً للمواد الخام المصرية.