رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

وجدي زين الدين يكتب: ثورة 1919.. نهضة أمة وكفاح شعب (3)

سعد زغلول
سعد زغلول

سعد زغلول يصر على استقلال مصر

إلغاء الحماية البريطانية والأحكام العرفية والرقابة على الصحف

الزعيم يشترط أن يكون الوفد المصري المسئول الأول عن المفاوضات

لماذا اعترض عدلي يكن على شروط الوفد في لجنة ملنر؟!

المصريون يقاومون الاحتلال إثر فشل مفاوضات يكن وكيرزون

 

ملخص الحلقة الماضية

في الحلقة الماضية تحدثنا عن أسرار تشكيل لجنة ملنر والتي كان الهدف منها عزل الزعيم سعد زغلول ورفاقه عن الشعب،  وكسر مطالب الزعيم بجلاء  المستعمر البريطاني، وتناولت الحلقة  الماضية إصرار الوفد المصري على شرط الاستقلال التام وإطلاق الحريات العامة خاصة حرية الصحافة لبدء المفاوضات وشملت الحلقة كيف أجبر الشعب المصري بريطانيا العظمى على التفاوض مع سعد باعتباره ممثلاً شرعياً للأمة المصرية، بالإضافة إلى أسرار رفض المصريين عقد معاهدة ملنر وسر نداء سعد للأمة.

 

نتناول اليوم الجزء الثاني من تفاصيل لجنة ملنر والصدام بين سعد وعدلي يكن، وإصرار الزعيم على عدم التخلي عن الشعب الذي ينادي بالحرية وجلاء المستعمر البريطاني، رغم حرص بريطانيا على خذلان سعد وإبعاده، ونشر الفتنة بين الزعماء السياسيين المصريين في هذا التوقيت.

وفي هذه الحلقة يتم مناقشة نفي القادة وصدور تصريح فبراير وإعلان استقلال مصر.. والدراسة مستقاة من كتب ومقالات أحمد شفيق في حوليات مصر السياسية ورمزي ميخائيل من كتاب تاريخ الوفد والصحافة المصرية وثورة 1919 وعباس العقاد في كتابه سعد زغلول سيرة وتحية وعبدالرحمن الرافعي في كتابيه ثورة 1919 وفي أعقاب الثورة المصرية.

 

وصل رئيس وأعضاء الوفد إلى الإسكندرية، يوم 4 أبريل 1921، وسط ترحيب شعبى هائل، وأخذ سعد زغلول يلقى الخطب السياسية فى الولائم والاحتفالات، التى يبين فيها خطة الوفد إزاء المفاوضات، وأجرى مباحثات سرية مع الحكومة لمعرفة «الهدف الحقيقى من المفاوضات». وصاحب خطب سعد ومباحثاته، سيل من الكتابات الصحفية، التى تكاد جميعها تتفق على رأى واحد هو ضرورة اتحاد الصفوف، وتعضيد الوفد للوزارة فى مواجهة المفاوض البريطانى.

ولكن الصدام وقع بين سعد زغلول وعدلى يكن، بعد تفاقم الخلاف بينهما، حول شروط الوفد للاشتراك مع الوزارة فى المفاوضات. وصار الخلاف بين الطرفين علنياً، بعد الحديث الذى أدلى به سعد إلى داود بركات، ونشرته «الأهرام» فى 23 أبريل 1921. وجاءت أقوال رئيس الوفد كالتالى: «.. لم يتم.. أى اتفاق بين الوفد والوزارة.. اشترطنا أن تعين مهمة المفوضين الرسميين، وتحدد بمرسوم سلطانى تحديداً يتفق مع مطلب الأمة ومبادئ الوفد.. أما هذه المهمة فيجب أن تكون: أولاً: إلغاء الحماية إلغاء تاماً صريحاً. ثانياً: الاعتراف باستقلال مصر استقلالاً دولياً عاماً. ثالثاً: إلغاء الأحكام العرفية والمراقبة قبل الدخول فى المفاوضات. رابعاً: أن تكون غالبية المفوضين الرسميين للوفد، وأن تكون رئاسة الهيئة المفاوضة من الوفد، وأن الوفد هو المسئول أمام الأمة عن المفاوضات ونتيجتها، فيجب حتماً أن يكون بيده إدارتها حتى يتصرف فيها بإبداء كل ما يراه صالحاً، ويوصلها ويقطعها على حسب الأحوال. ورد سعد على القول «إن هذا ليس منطبقاً على التقاليد المرعية» بقوله: «إن لكل بلد تقاليده الخاصة»، وليس لدينا تقاليد سابقة، و«لصاحب السلطان أن يجرى فيها طبقاً لما تقتضيه المصلحة». والأمة «تحتم أن تكون الرئاسة فى الوفد نائبها ومحل ثقتها»، ونحن نأمن الانشقاق فى المفاوضين بأن يكونوا من «مبدأ واحد»، «يرمون إلى غاية واحدة، هى غاية الأمة.. وإذا فاوضت الوزارة على غير شريطة الوفد.. فإن الوفد لا يؤيدها..».

وفى حديثه لـ«الأهرام» يوم 25 أبريل 1921، أعلن عدلى يكن موافقته على الشرط الأول، والشرط الثانى بما فيه تحفظات الوفد على مشروع «ملنر»، ثم أوضح أن «تعيين مهمة المفوضين الرسميين بمرسوم سلطانى.. تتنافر تنافراً كلياً مع التقاليد الدستورية؛ لأن مسئولية الخطط السياسية يجب أن تتحملها الوزارة وحدها».

وأكد عدلى موافقته على الشرط الثالث، وعن الشرط الرابع، قال: «إننا لا نمضى فى تقرير مستقبل مصر أحزاباً وشيعاً.. ومن السهل جداً الاتفاق على أعضاء هيئة المفوضين».

أما طلب الرئاسة، فإن التقاليد السياسية «لا تسمح أن يدخل رئيس حكومة فى مفاوضة سياسية، ولا يكون رئيس الهيئة الرسمية التى تتولاها من قبل بلاده، إن التصرف بالمفاوضات.. لهو بالبداهة من حق الهيئة لا حق الرئيس بمفرده. فإذا كان طلب سعد الرئاسة هو لتمكينه من هذا الحق، فلا معنى إذن لاشتراك أحد معه فى المفاوضات».

ورد سعد فوراً على آراء عدلى، فى خطابه بحفلة تكريمه بشبرا يوم 25 أبريل 1921، معارضاً لها، معلناً عدم الثقة بالوزارة، وكرر سعد قوله للجنة «ملنر» فى 25 أكتوبر 1920، إنه إذا عينت الوزارة المفاوضين المصريين، تجعل المفوضة بين الأصل وفرعه، أى بين الحكومة الإنجليزية والحكومة الإنجليزية أيضاً، «إذن فجورج الخامس يتفاوض مع جورج الخامس». وهكذا انحصر الخلاف بين سعد وعدلى فى رئاسة الوفد والأغلبية فى أعضائه وتحديد مهمته بالمرسوم السلطانى.

ونتج عن الخلاف بين سعد وعدلى، الانقسام بين أعضاء الوفد، ففى 28 أبريل 1921، بحثت هيئة الوفد موضوع اشتراكه مع الوزارة فى المفاوضات، فرأت أغلبية الأعضاء ترك المفاوضة للوزارة، وعدم معارضتها فيها. ولكن سعد زغلول أصر على رأيه، وعلى إعلان عدم الثقة بالوزارة، فاستقال على شعراوى. وكتب حمد الباسل، عبداللطيف المكباتى، محمد محمود، أحمد لطفى السيد، ومحمد على علوبة، رسالة إلى رئيس الوفد نشروها فى الصحف، اعترضوا فيها على عدم اكتراثه برأى أغلبية الأعضاء، وأكدوا أن الخطة المثلى هى عدم اشتراك الوفد فى المفاوضات. وأعلنوا ثقتهم بالوزارة ونبهوها إلى أن كل اتفاق لا يشمل تحفظات الأمة، لن يقابل من «الجمعية الوطنية» إلا بالرفض الصريح.

ورد سعد زغلول على رسالة الأعضاء ببيان وجهه للأمة يوم 29 أبريل 1921، اتهمهم فيه بمخالفة الحق والتضامن والوحدة، واعتبرهم خارجين عن الوفد منفصلين عنه. وأكد «أن الوفد الممثل للأمة- بعد انفصال المخالفين عنه- يستمر فى العمل: رئيسه وأعضاؤه المتفقون فى المبدأ والغاية.. ويسعون بكل ما فى وسعهم للقيام بما عاهدوا الأمة عليه حتى بلوغ الغاية». ومنذ ذلك الوقت، سُمى الأعضاء المنفصلون «منشقين». وشملت هذه الصفة كل من خالف رأى سعد زغلول.

وانضم إلى الأعضاء المنفصلين: عبدالعزيز فهمى، حافظ عفيفى، عبدالخالق مدكور، ثم استقال جورج خياط فى شهر يونيو 1921، فتألفت الجبهة المعارضة للوفد من أعضائه المنفصلين، وأعضاء من حزبى الأمة والوطنى. وبقى إلى جانب سعد زغلول، مصطفى النحاس، واصف بطرس غالى، سينوت حنا، ويصا واصف، وعلى ماهر.

وهكذا انقسمت الأمة المصرية وصحفها بين سعد ومعه أقلية أعضاء الوفد وأغلبية أفراد الأمة، من ناحية، وبين عدلى يسانده أغلب أعضاء الوفد الذين خرجوا منه، وأقلية الأمة، من ناحية ثانية، ومن ثم ظهر السلطان أحمد فؤاد كقوة تهدد سلطة الشعب وتعرقل حصوله على حقوقه.

وتعددت البيانات التى أصدرها عدلى يكن والأعضاء المنفصلون عن الوفد، التى يبررون فيها مواقفهم، ويحملون سعداً مسئولية الانشقاق والاضطراب.

واندلعت التظاهرات المعادية لعدلى يكن وأعضاد الوفد «المنشقين»، تنادى: «لا رئيس إلا سعد. لا مفاوض إلا سعد، سعد رئيسك يا عدلى». وأفاد سعد زغلول من النشر فى الصحف والخطابة فى الحفلات، لإعلان رأيه على الجماهير، بينما كانت تقاليد منصب عدلى يكن، كرئيس للوزراء، تقيد حركته، فاكتفى بالحديث الصحفى والبيان الرسمى. وأخذت الوزارة تتعقب خطب وبيانات الوفد بالمنع والحذف.

وكانت أشد التظاهرات عنفاً، هى التى اندلعت فى طنطا يوم 29 أبريل 1921، واصطدمت بالبوليس، فقتل أربعة وجرح أربعون من المتظاهرين. فاشتد تيار السخط على الوزارة، من ناحية، وأفسحت الصحف صفحاتها لنشر الآراء والاقتراحات الرامية إلى التقريب بين السعديين والعدليين، وتأليف «جمعية وطنية» بالانتخاب، تبت فى مسألة المفاوضة.

وفى مواجهة السخط الذى أحاط بوزارة عدلى يكن، أراد رئيسها أن يقدم عملاً يخفف من هذا الشعور السيئ، ويمهد لدخول الوزارة المفاوضات الرسمية، فاختار إلغاء الرقابة الصحفية السابقة للنشر، وصدر القرار فى 15 مايو 1921، ولكن الحكومة ظلت متمسكة بزمام الأمور فى يدها، بواسطة الأحكام الاستثنائية.

ثم استصدرت الوزارة من السلطان أحمد فؤاد، مرسوماً بتأليف الوفد الرسمى للتفاوض برئاسة عدلى يكن، وعضوية الوزراء حسين رشدى وإسماعيل صدقى ومحمد شفيق، ورئيس محكمة الاستئناف أحمد طلعت، والوزير السابق يوسف سليمان واصطحب الوفد بعثة من المستشارين والموظفين.

ورغم صدور أمر الوزارة إلى البوليس بمنع التظاهر، فقد ازدادت التظاهرات عنفاً، ضد كل من خالف رأى رئيس الوفد. واشتبك المتظاهرون بالإسكندرية يوم 22 مايو 1921 مع بعض الأجانب، وتبادل الطرفان إطلاق الرصاص، فتدخل رجال البوليس والجيش. ووقع الكثير من الضحايا والخسائر، وأدان «المارشال اللنبى» المندوب السامى البريطانى التظاهر. بينما ناشد سعد زغلول الأمة المصرية الهدوء وحسن معاملة الأجانب، وصرح «ونستون تشرشل»، وزير المستعمرات البريطانية، بأنه لا يرى الوقت قد حان لجلاء الجيوش البريطانية عن مصر، فقوبل تصريحه بالاحتجاج من الهيئات كافة.

وأخذت الصحف الموالية للحكومة، وفى قدمتها «الوطن»، تطلع على الناس كل يوم بعرائض موقعة من بعض الشخصيات المعروفة ومن العامة، تؤكد الثقة بالوزارة. بينما كانت أعمدة الصحف الوفدية، تتقدمها «النظام»، تفيض بأخبار الوفود والرسائل التى تعلن الثقة والتأييد للوفد.

وهكذا سافر وفد المفاوضات المصرى الرسمى، يوم أول يوليو 1921 من الإسكندرية، بين مراسم الوداع الرسمى، ومظاهر الخلاف بين «العدليين» و«السعديين» وعند وصوله إلى باريس يوم 6 يوليو ولندن يوم 12، استقبله بعض المصريين بالهتافات المعادية.

وقد عقدت الجلسة الافتتاحية للمفاوضات، بين الجانب المصرى، برئاسة عدلى يكن، رئيس الوزارة المصرية، والجانب البريطانى برئاسة «اللورد كيرزون»، وزير الخارجية البريطانية، يوم 13 يوليو 1921، وأصدرت وزارة الخارجية البريطانية بلاغاً رسمياً عنها، أما بقية الجلسات فكانت سرية، وصعبة.

وبينما الوفد الرسمى يعانى صعوبة التفاوض فى لندن، كان سعد زغلول فى مصر، يشن حملة على الوزارتين المصرية والبريطانية، خشية أن يبرم عدلى يكن اتفاقاً مع الحكومة البريطانية، يقيد مصر بقيود شديدة رغم أنفها، بينما تبدو هى وكأنها راضية بها؛ بسبب مظاهر الثقة المزيفة بالوزارة، التى اصطنعها عبدالخالق ثروت، وزير الداخلية.

ولم يكتف الوفد بفضح سياسة الوزارتين المصرية والبريطانية أمام الرأى العام المصرى، بل وسع دائرة حملته لتصل إلى الرأى العام البريطانى أيضاً. فأخذ سعد زغلول يدلى بالأحاديث إلى الصحف البريطانية. وسعى الوفد لإقناع أعضاء البرلمان البريطانى، فبعث عشرة منهم برسالة إلى صحيفة «مورننج بوست»، نشرتها يوم 26 يوليو 1921، يعارضون فيها بشدة هيئة المفاوضات المصرية الرسمية؛ لأنها ليست وفداً من الشعب المصرى، ولا تمثل رأيه العام.

ودعا الوفد هؤلاء النواب البريطانيين، لزيارة مصر والاطلاع بأنفسهم على الأحوال فيها، فحاولت الحكومة المصرية منع سفرهم إلى مصر، دون جدوى. فلما وصولوا إلى مصر يوم 19 سبتمبر 1921، يتقدمهم «المستر سوان»، واستقبلتهم بحفاوة لجان الوفد وجماعات أخرى من الشعب، أصدرت الحكومة أوامرها بمنع التظاهر. وحرمت النواب ورئيس الوفد من زيارة طنطا يوم 23 سبتمبر 1921. ولكنهم تمكنوا من زيارة بورسعيد والمنصورة. وهاجم سعد فيهما الحكومة المصرية ووفدها الرسمى. وفى يوم 7 أكتوبر 1921، غادر النواب القاهرة عائدين إلى بلادهم، وأكدوا فى تقريرهم يوم 28 أكتوبر، أن «الاستقلال التام حق للمصريين، بشرط عقد معاهدة تصون مصالح إنجلترا والأجانب»، وأشاروا «بإلغاء الحكم العرفى.. وإجراء الانتخاب فى الحال».

ومضت وزارة عدلى يكن على طريق قمع المعارضين لها، بشتى الوسائل والأسباب، ولكن الوفد استمر فى معارضة الوزارة والتفاوض الرسمى. وقام رئيس الوفد وبعض أعضائه بجولة فى أنحاء الصعيد، استخدموا فيها باخرة نيلية، بدأت رحلتها من الجيزة يوم 11 أكتوبر 1921. وعند وصولها إلى أسيوط يوم 14 أكتوبر، وقع صدام عنيف بين «السعديين» و«العدليين»، فتدخل رجال البوليس، وسقط الجرحى والقتلى. ولم تتم زيارة الوفد لأسيوط، ولم ينزل من الباخرة إلا فى جرجا. ولما وصلت الباخرة إلى أسوان، قررت الحكومة رسمياً، منع سعد زغلول من استكمال جولته، فعاد إلى الجيزة يوم 30 أكتوبر 1921، وحفظت النيابة العامة التحقيق فى حوادث الجولة.

وفى لندن، طالت المفاوضات بين عدلى و«كيرزون» على غير جدوى. ومنذ بدايتها، حرص الجانب البريطانى على الإفادة من انقسام الجبهة المصرية بين سعد وعدلى، فى إضعاف مركز المفاوضين المصريين، وإرهاقهم. وبنى «كيرزون» مقترحاته على أنه لا يثق بالمصريين. وتخللت المفاوضات فترة توقف ثم انتهت بالإخفاق، إذ سلم «كيرزون» لعدلى يوم 10 نوفمبر 1921، مشروع معاهدة وضعته الوزارة البريطانية، أصرت فيه على وجوب بقاء الاحتلال العسكرى فى أى مكان بمصر، وفصل السودان عنها. وضمنت المشروع شروطاً تهدم معانى الاستقلال وتنظم الحماية على مصر، بوضع شئونها الخارجية.

وفى 3 ديسمبر 1921، بادر «اللورد اللنبى» المندوب السامى البريطانى بمصر، بتسليم السلطان أحمد فؤاد، تبليغاً رسمياً بريطانياً، ومعه نص مشروع «كيرزون»، ونص رد عدلى يكن عليه. وعمدت السلطات البريطانية بمصر إلى إذاعتها، لاستمالة

الرأى العام المصرى إليها. ولكن نشر الوثائق الثلاث أثار سخط المصريين، واحتجاجهم؛ لأنها كشفت إصرار بريطانيا على إبقاء مصر تحت سيطرتها.

وعاد عدلى يكن إلى مصر، يوم 5 ديسمبر 1921، ليرفع إلى السلطان فؤاد، يوم ديسمبر، تقريراً عن المفاوضات، أوضح فيه استحالة قبول مشروع المعاهدة البريطانى وفى اليوم ذاته، رفع عدلى استقالة الوزارة إلى السلطان، وقد بناها على عدم إمكان تحقيق برنامجها فى المفاوضات. وبذلك وضع عدلى يكن تقليداً لمن خلفه من رؤساء الوزارات يقضى بالاستقالة بعد الفشل فى التفاوض. وقبل السلطان الاستقالة، يوم 24 ديسمبر 1921، بعد إلحاح عدلى والصحف كافة عليها.

 

نفي القادة.. وصدور تصريح فبراير.. وإعلان استقلال مصر:

اتجهت الحكومة البريطانية إلى استرضاء رجال السياسة «المعتدلين» المصريين، والاعتماد عليهم فى تأليف وزارة تسير الأمور بما يحقق أهداف السياسة البريطانية. وقررت إزالة العقبات من طريقهم، بوقف المعارضة القوية التي قادها سعد زغلول، ضد السياسة البريطانية والمصريين المسايرين لها، وتنفيذ أسس مشروع «كيرزون» من جانب واحد. وعرضت تأليف الوزارة على عبدالخالق ثروت، وزير الداخلية ـ نائب رئيس الوزراء فى وزارة عدلى يكن المستقيلة ـ ولكن سعد زغلول وأعضاء الوفد المنفصلين، عارضوا أسس التبليغ البريطانى للسلطان، وناشدوا كل مرشح للوزارة أن يرفضها، حتى «نترك الإنجليز يخنقون حريتنا بغير واسطتنا،ومن غير أن نقدم لهم الحبال التي يخنقوننا بها». وتحل ذكرى إعلان الحماية البريطانية على مصر، فى 18 ديسمبر 1914.

ويدعو رئيس الوفد إلى اجتماع كبير يعقد بنادي «سيروس» بالقاهرة، يوم 23 ديسمبر 1921، «للنظر في الأحوال الحاضرة»، ولكن المندوب السامي البريطاني، يمنع عقد الاجتماع، فيذيع سعد احتجاجاً على الإجراء البريطاني.

وتقع في 20 ديسمبر 1921، محاولة اغتيال جنديين بريطانيين بالقاهرة،  فيصدر المندوب السامي «أمراً طبقاً للأحكام العسكرية، بمنع زغلول من كل اشتراك في السياسة، والسفر إلى عزبته. وتحذير جرائده من التهييج، وإلزام كبار أنصاره بأن يلزموا بيوتهم تحت مراقبة البوليس، وأن يكفوا عن الأعمال السياسية».

فيرد سعد يوم 22 ديسمبر بأن هذا الأمر ظالم، «وبما أني موكل من قبل الأمة للسعي في استقلالها، فليس لغيرها سلطة تخليني من القيام بهذا الواجب المقدس. لهذا سأبقى في مركزي مخلصاً لواجبي، وللقوة أن تفعل بنا ما تشاء»، وأجاب أكثر أقطاب الوفد بأن ردهم هو نفس رد رئيسهم.

وتنفيذاً لخطة إسكات المعارضة، لإفساح المجال «للمعتدلين»، ورداً على عناد أقطاب الوفد، اعتقلت السلطة العسكرية البريطانية، يوم الجمعة 23 ديسمبر 1921، سعد زغلول وزملاءه الذين رفضوا الأوامر البريطانية، وهم: فتح الله بركات، عاطف بركات، مصطفى النحاس، مكرم عبيد، وسينوت حنا. وأصدر «المارشال اللنبي» أمراً عسكرياً، يمنع البنوك من صرف أي مبلغ لهم أو للوفد، إلا بإذن كتابي منه. فاحتج الوفد والهيئات كافة بقوة، واندلعت التظاهرات بالقاهرة وبعض المدن. وصدرت أوامر السلطة العسكرية بالتصدي لها بالقوة. وألح عدلي يكن على قبول استقالته، لكي لا يتحمل مسئولية اعتقال قادة الوفد. وأبحر القادة المنفيون من السويس مساء 29 ديسمبر 1921، على ظهر نقالة حربية بريطانية إلى عدن، ثم نقلوا في مارس 1922 إلى جزائر سيشل وظلوا بها، عدا سعد الذي نقل إلى جبل طارق مراعاة لصحته يوم 18 أغسطس 1922. وقد تضامنت كل الهيئات والصحف مع القادة المنفيين، واحتجت على نفيهم.

وفي هذه الأثناء، وافق عبدالخالق ثروت على تأليف الوزارة، بشروط حددها وطلب الاتفاق عليها، حتي لا تتعرض وزارته للعقبات، فتواجه المصير الذي آلت إليه وزارة عدلي يكن. وبعد التشاور، أصدرت وزارة الخارجية البريطانية، يوم 30 يناير 1922.

وفى هذه الفترة ، نفذ المصريون فكرة المقاومة السلبية للاحتلال البريطانى، التى نبتت على إثر فشل المفاوضات بين عدلى يكن و«كيرزون» وازدادت حركة المقاومة السلبية انتشاراً، مع ازدياد الاجراءات البريطانية قسوة وعنفاً، ويصدر الوفد ظهر يوم «23 يناير 1922»، قراراً بتنظيم هذه المقاومة، بتوقيع حمد الباسل، ويصا واصف، على ماهر، جورج  خياط، مرقس حنا، علوى الجزار، مراد التشريعى، وواصف غالى.

ويعبر قرار الوفد عن إرادة الأمة، التى أفصحت عنها الأحزاب والصحف، ويضم شقين، الأول، ينظم عدم المعاونة فى معاملات الأفراد، وفى الوزارات ومصالح الحكومة والمحاكم، أما الشق الثانى، فهو ينظم مقاطعة البنوك والسفن وشركات التأمين والتجارة البريطانية، وانطلق رجال البوليس يصادرون الصحف التى نشرت القرار، وأمرت السلطات العسكرية بتعطيلها، واعتقل الجنود البريطانيون أعضاء الوفد الذين وقعوا القرار واصطحبوهم من منازلهم الى ثكنة قصر النيل، فيما عدا ويصا واصف المحامى، الذين كان يترافع أمام المحكمة المختلطة، فانتظره الجنود حتى أتم مرافعته.

وعلى إثر اعتقال أعضاء الوفد موقعى قرار المقاطعة، تألفت هيئة وفدية جديدة من المصرى السعدى، حسين القصبى، مصطفى القاياتى، سلامة ميخايل، فخرى عبدالنور، ومحمد نجي الغرابلى، الذين أعلنوا الاستمرار فى الجهاد، ثم أفرجت السلطة العسكرية عن أعضاء الوفد موقعى قرار المقاطعة يوم 27 يناير 1922.

وأعلن السلطان احمد فؤاد، يوم 15 مارس 1922، استقلال مصر، واتخذ لنفسه لقب «صاحب الجلالة ملك مصر»، وصار هذا اليوم عيداً وطنياً، وأنشأت الحكومة المصرية وزارة للخارجية، تولاها  رئيس الوزراء، بعد أن كانت ملغاة طيلة عهد الحماية منذ سنة 1914، وأبطلت  تعطيل مصالح الحكومة فى يوم عيد جلوس  ملك انجلترا وعيد ميلاده، وألغت وظيفة مستشار وزارة الداخلية، وكف المستشار المالى البريطانى عن حضور جلسات مجلس الوزراء، وعين الوزارة وكلاء مصريين للوزارات بدلاً من البريطانيين، وأوفدت البعثات العلمية للخارج، وأنشأت «المجلس الاقتصادى».

وقد اختلفت آراء الصحف المصرية فى إعلان استقلال مصر، فالصحف المؤيدة للوفد والحزب الوطنى، المعارضة لتصريح 28 فبراير 1922، رأت أنه استقلال لفظى، لا ينطبق على واقع الاحتلال البرطانى لمصر، وكان فى مقدمتها صحف: «مصر»، «النظام»، «الأخبار» و«الأمة»، أما الصحف المعتدلة: «الأهرام»، «الاستقلال» و«اللطائف المصورة»، فقد اعتبرته خطوة طيبة للأمام، وأشادت الصحيفتان المساندتان للسياسة البريطانية: «الوطن» و«المقطم»، بإعلان الاستقلال واعتبرته أمراً واقعاً.

وهكذا اختلفت الآراء حول تصريح «28 فبراير »1922، وإعلان استقلال مصر المبنى عليه، من حيث جوهر هذا الاستقلال وقيمته الواقعة. غير أن أكثر الآراء اتفقت على أن كلاً من التصريح  والإعلان، وضعا حداً لثورة 1919، فاعتمدت الحركة الوطنية بعدهما، على الأساليب السياسية غير الثورية، فى أكثر الأحيان.

 

«إنجازات الثورة»

كانت الوحدة الوطنية بين الأقباط والمسلمين فى ثورة 1919، صفة مميزة للثورة ومن أبرز إنجازاتها، فقد اشتد تيار الثورة القائم على الوطنية دون الدين تحت شعار «الدين لله والوطن للجميع»، إلى درجة مكنته من إزالة الخلافات والشكوك بين شقي الأمة، وإرجاع الخارجين عن الجامعة الوطنية إلى حظيرتها. وكان دور القادة ذوي الفكر المتنور، إلى جانب دور رواد الصحافة المصرية، من أهم العوامل والمؤثرات التي أدت إلى تعميق وتقوية الوحدة بين أبناء الوطن الواحد متعددي الديانات.

فقد نشرت الصحف المصرية بالتحبيذ والتأييد مظاهر ومواقف الوحدة السياسية بين المصريين كافة، في مواجهة الاحتلال البريطاني. ووصفت بعناية مظاهر الاندماج الاجتماعي بين سائر أبناء الوطن. وفي الوقت ذاته، وقفت الصحافة الوطنية بقوة، لإفساد كافة محاولات رجال الاحتلال، لضرب وحدة المصريين وتفتيتها، سواء بإصدار القرارات المهددة لهذه الوحدة، كتعيين يوسف وهبة، رئيساً للوزراء، أو بإعلان السياسات وإصدار التصريحات التي تبث الفرقة والانقسام، كالنص في تصريح 28 فبراير 1922، على حماية الأقليات.

ونجح قادة الثورة والصحافة الوطنية، في الرد على افتراءات رجال الاحتلال البريطاني وصحفه، والاتهامات التي وجهوها للشعب الثائر، لإثارة الشكوك والخلافات بين أفراده أتباع الديانات المختلفة، وضرب وحدتهم. وكان في مقدمتها صبغ الثورة بالصبغة الدينية العامة، واتهامها بالتعصب الديني الاسلامي، واتهام الأقباط بالانضمام إليها خوفاً من المسلمين، وإثارة الصراع على الوظائف العامة بين الأقباط والمسلمين، لنشر مشاعر الغيرة والحقد بينهم.

وبمقارنة الحالة في مصر، قبل اندلاع الثورة وبعدها، يتضح أن الثورة وقفت في معارضة فرض الحماية البريطانية على مصر، إذ اعترفت الحكومة البريطانية في فبراير 1921، بأن «الحماية علاقة غير مرضية». ثم أعلنت إلغاءها تماماً في تصريح 28 فبراير 1922، واعترفت بمصر «دولة مستقلة ذات سيادة».

وكان الاعتراف البريطاني باستقلال مصر، إنجازاً سياسياً كبيراً لثورة 1919 فرغم انه لم يحقق الجلاء الفوري لقوات الاحتلال من أرض مصر، إلا انه كان الأساس الذي قام عليه نظام الحكم فيها. فقد صدر الدستور سنة 1923، مقرراً سلطة الشعب وحقه الشرعي في حكم نفسه بنفسه، ومحدداً حقوق المصريين وحريتهم السياسية. وبناء عليه تألف المجلس النيابي سنة 1924 وألغيت الامتيازات الأجنبية.