رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

"الكيماوي" حرب السموم وفن صناعة القتل داخل علبة كبريت

الكيماوري
الكيماوري

آلاف الأطنان من السموم المخزونة تنتظر إشارة البدء لنشر الدمار

يستهدف تدمير المخ والجهاز التنفسى ويحرق جلود البشر فى دقائق

المنظمة الدولية لحظره عاجزة عن أداء دورها لغياب الشفافية الدولية

 

 

 

عندما ألقى الرئيس الأمريكى السابق جون كيندى خطابه الشهير فى جامعة «رايس» فى سبتمبر عام 1962، وطالب خلاله بعدم ملء الفجوات الدولية وحل الخلافات بأسلحة الدمار الشامل رفقًا بالبشرية من حروب الإبادة، لإنقاذ الأجيال القادمة من ويلات وآثار هذه الأسلحة الشرسة، واستبدال أسلحة الدمار الشامل بوسائل من التفاهم والمعرفة لإنهاء الخلافات والصراعات، كان «كيندى» يرغب فى غسل يد بلاده المتورطة فى ريادة ابتكار وصناعة نوعيات تلك الأسلحة، ويأمل أن يتم استبدال مصانع السلاح، بأخرى تصنع التنمية من أجل الأمن والسلام العالمى، ولم يدر أنه سيدفع حياته بعد عام واحد من خطابه هذا بسلاح نارى، وأن دول العالم لن تتوقف أمام خطابة الإنسانى العميق، بل ازدادت سباقًا فى امتلاك أسلحة الدمار الشامل، نووى، كيماوى، بيولوجى، والدولة التى لم تملك القدرة على تصنيع السلاح النووى، هرعت لامتلاك السلاح الكيماوى، فهو اقل تكلفة، ولا يقل خطورة، أنه سلاح السم وتدمير الأعصاب لقتل البشر وكل الكائنات الحية على حد سواء فى لحظات، وتناولت الوفد فى الحلقة الماضية كل الحقائق حول السلاح النووى، واليوم نغوص فى أسرار السلاح الكيماوى.

 

«صناعة الموت فى العالم، أصبحت لدى من يقومون عليه نوعاً من الفن والابتكار، يتنافسون لتقديمه للدول والجيوش فى صورة أسلحة فتاكة سهلة الاستخدام، وفى نفس الوقت شرسة التأثير ووسعة النطاق، ولنا أن نتصور أن عبوة فى حجم علبة الكبريت مملوءة بغاز السارين المدمر للأعصاب، يمكنها قتل عشرات الآلاف من البشر فى دقائق وأن تهلك البيئة بكل ما بها من كائنات حية وحتى الزروع والنباتات، فالسلاح الكيماوى أكثر الأسلحة فتكاً بكل الكائنات الحيّة، يقتل الملايين وهم فى أماكنهم، يحرق أجسادهم لتتفحم تماماً، أو يصيبهم بتدمير فى خلايا المخ والخلايا العصبية ليصابوا بالشلل وأيضاً التشوهات والحروق، وهو ثانى أسلحة الدمار الشامل بعد السلاح النووى، ولا يقل عنه شراسة ودموية، وأبسط أنواع السلاح الكيماوى يستخدم كقنابل مسيلة للدموع.

 

وللأسف، الأسلحة الكيمائية سهلة التحضير فى المعامل وبتكاليف زهيدة وسهلة الاستخدام والانتشار، وهذه الحقيقة تجعل مسألة السيطرة على هذه الأسلحة ومراقبتها شديدة الصعوبة، ولا تزل توجد منها آلاف الأطنان بالدول تنتظر إشارة البدء للهجوم للقتل والتدمير، يمكن الهجوم بها من خلال عبوات صغيرة أو كبيرة مليئة بالغازات السامة، يتم نثرها فى الهواء لاستنشاقها، أو إلقائها فى دروع كيمائية من الطائرات لتنفجر بمجرد أن تلمس الأرض، أو قذفها عبر المدفعية وقنابل الطائرات، أو رشها من الطائرات، ووضعها كرؤوس للصواريخ، أو دمجها مع قاذفات اللهب، ويمكن باستخدام 15 طن منها فقط قتل 50% من البشر فى مساحة 60 كيلومترًا مربعًا.

 

أنواعها وآثارها

 

للشر القاتل أنواع وأشكال وألوان، فالأسلحة الكيمائية نوعان، الأول للقتل المباشر، والثانى أسلحة تعجيزية، القاتلة منها تختلف حسب منطقة تأثيرها على جسم الضحية، فمنها ما يستهدف الدم مثل سيانيد الهيدروجين، أو يستهدف الجلد مثل الكبريت والنتروجين، ومنها ما يصيب الأعصاب ويدمرها مثل غاز السارين، أو يستهدف الرئة مثل غاز الكلورين، ويوجد من الغازات القاتلة 40 نوعاً، ولكن غالبًا تستخدم الدول منها خمسة أنواع، هى السارين، الخردل، السيانيد، الكلور، الكبريت، أما الأسلحة التعجيزية التى تشل حركة الضحية دون قتله، فهى تعمد التأثير على مراكز الحركة لشلّ الجسم أو تعجيزه، على غرار الغازات المُنومة أو الحارقة أو المسيّلة للدموع.

 

وحتى الآن، الغازات المدمرة للأعصاب الأخطر والأقوى، وهى السارين، الخردل، السومان والتابون، فهى غازات تتدخل بشكل مباشر مع نشاط الجهاز العصبى البشرى لتدمره فى دقائق مما يؤدى للوفاة السريعة، والسارين يتم تصنيعه بشريًا، أما الخردل أو ما يطلق عليه «الرايسين» ويُستخرج من زيت نبات الخروع، ويؤدى إلى منع تكوين البروتين فى خلايا الشخص الذى يتعرض له، مما يؤدى إلى وفاته، وقد استخدمت أمريكا وكندا والاتحاد السوفيتى هذا الغاز خلال الحرب العالمية الأولى والثانية، ورغم حظر هذا المركب دولياً عام 1972 وعام 1997، فإنه للأسف يتم إنتاجه حتّى الآن، يضاف لذلك مجموعات أخرى من الغازات السامة تستخدم على نطاق أضيق، مثل النيترو كلوروفورم، الفوسجين، وكلها تستهدف الجهاز التنفسى.

 

وتطاير الغازات السامة والقاتلة من خلال الأسلحة الكيمائية، لا يمكن أبداً تحديد نطاقها البيئى، فهى لا تستقر فى مكان محدد، ويستمر أثرها فى البيئة لفترات من أسابيع إلى سنوات إذا ما أصابت مياه أو زرع، فهى تقضى على الأخضر واليابس حرفيًا، ولا تنسى ذاكرة التاريخ أن استخدام الغاز البرتقالى السام دمر 15% من الحياة الخضراء فى جنوب فيتنام عندما استخدمته على أراضيها فى الحرب التى شنتها عليها الولايات المتحدة الأمريكية.

 

ومن المؤسف له أن حتى عمليات إتلاف الأسلحة الكيمائية القديمة والتخلص منها، من خلال منظمة حظر الأسلحة الكيمائية، لا ينجو الإنسان ولا البيئة من آثارها، فهى نفايات سامة، إذا ما تم دفنها فى الأرض تلوثها وتسمم وتتلف الزراعات، وتسمم المياه الجوفية، لذلك دفنها والتخلص منها بصورة آمنة يتكلف المليارات من الأموال، فمن صنع الشر وأسباب القتل والدمار، لا يمكنه إخفاء آثاره للأبد ونفض يديه بصورة خالصة.

 

حروب وضحايا

 

ويسجل التاريخ أن رغبة القتل السريع، وتحقيق أكبر قدر من سقوط الضحايا، موجودة وقديمة قدم التاريخ مع كل من أراد القوة والسيطرة، واستلاب ما ليس حقه، أو حتى دفع الشر عنه، لذا عرف العالم استخدام السلاح الكيماوى منذ القدم، بدأ بسيطاً ثم تطور خطره، ففى حروب الهند القديمة عام 2000 قبل الميلاد تم استخدام أبخرة سامة تتسبب فى الارتخاء والنعاس لجنود العدو للتمكن منهم بسهولة والقضاء عليهم، فى حروب الرومان فى القرن الثامن، كانت تستخدم الأسهم ذات الرؤوس المسممة للقضاء على العدو فى دقائق، ثم شهد القرن التاسع عشر تقدماً مذموماً مع ازدهار الصناعات الكيماوية، حيث قام الألمان فى الحرب العالمية الأولى بتفجير حاويات غاز الكلور، والاعتماد على الرياح لنقل الغاز السام إلى العدو.

 

كما لجأت كافة الأطراف المتصارعة فى هذه الحرب إلى استخدام الغازات السامة بعضها ضد البعض، مما أسفر عن مقتل 100 ألف شخص وإصابة مليون فى صفوف قوات روسيا وفرنسا وإنجلترا وألمانيا والولايات المتحدة بالآثار السامة، وفى الحرب العالمية الثانية استخدمت ألمانيا غاز الفوسجين

وسيانيد الهيدروجين فى قتل الملايين من المدنيين غير المرغوب فيهم من قبل القوة النازية.

 

فى القرن العشرين، أثناء الحرب الأمريكية ضد فيتنام ما بين 1955 حتى 1975 استخدمت أمريكا المواد الكيمائية لتسميم وتخريب المحاصيل وتدمير الغابات فى فيتنام، كما استخدم جيش العراقى عام 1988 غاز الأعصاب فى الهجوم الكيماوى على مدينة حلبجة وقتل أكثر من 5000 وإصابة مئات الآلاف من المدنيين غاز الأعصاب، كما استخدمت ليبيا الأسلحة الكيماوية خلال حُكمِ نظام معمر القذافى فى حربها مع تشاد ما بين عامى 1978 إلى 1987، وفى الصراع داخل سوريا تم استخدم السلاح الكيماوى فى عدة مناطق وراح ضحيتها أكثر من 2000 شخص.

 

محظورة بموجب القانون

 

الغريب فى الأمر أن الدول التى أسلحة الدمار الشامل، هى نفسها الدول التى ترفع شعارات الأمن والسلام وحقوق الإنسان، وتحرض القانون الدولى لاتخاذ إجراءات للحد من هذا السلاح، ولا تستجب نفسها للقانون، وقد حظر القانون الدولى عام 1899 استخدامَ الأسلحة الكيماوية، بموجبِ اتفاقية لاهاى التى نصت على منعِ استخدامِ الأسلحة المسمومة فى أى حرب بين دولتين موقعتين على المُعاهدة، وتم تجديد أمر الحظر فى معاهدة واشنطن البحرية فى فبراير 1922، لكن فرنسا عرقلت تفعيلها، وتبع ذلك توقيع بروتوكول جنيف فى يونيو 1925 لحظر استخدام الغازات الخانقة أو السامة فى الحروب، لكن هذه المعاهدة لم تتناول إنتاج أو تخزين أو نقل هذه الأسلحة.

 

وفى عام 1993 انطلقت معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية، لحظر واستحداث وإنتاج وتكديس واستخدام هذه الأسلحة، وأصبح لتنفيذ المعاهدة منظمة فى لاهاى العاصمة السياسية لهولندا، ووقّعت 192 دولة على المعاهدة، ومنذ يونيو 2016 بدأت المنظمة فى التفتيش على الدول الموقعة على المعاهدة، وأعلنت تباعاً تمكنها من تدمير 66368 من أصل 72525 طن مترى، أى ما يعادل 92% من مخزونات الأسلحة الكيماوية، وذلك وفقًا للمعلن من الدول نفسها، لكن المنظمة وقفت دوماً عاجزة أمام السرية التى تلتزمها الدول خاصة الدول الكبرى فى إخفاء مخازن الأسلحة الكيماوية، وعدم الإعلان عنها بشفافية للمنظمة، وعلى رأس هذه الدول أمريكا وكوريا الشمالية، واللتان تحتفظان بآلاف الأطنان من مخزون الأسلحة الكيماوية، دون السماح للمنظمة بالوصول إليها، وتحتفظان به تحت زعم «حق الرد» ضد أى هجوم كيماوى تتعرض له أى منهما.

 

كما أن قدرة الدول على سرعة تصنع الغازات والمواد السامة، وتخزينها بأماكن سرية، وتعويض ما تم تدميره من قبل المنظمة، دوماً ما يضع المنظمة فى موقف دولى عاجز عن حصر كميات الأسلحة الكيمائية بدقة، أو حتى تحديد مدى خطورتها، وللأسف لا تخلو منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة الكيمائية، وتعتبرها أسلحة ردع لتأمين ترسانتها من الأسلحة، فتوجد فى إيران وإسرائيل وسوريا على وجه الخصوص، كما توجد فى آسيا، حيث تمتلك كورية الشمالية والجنوبية برامج قوية وخطيرة من الأسلحة الكيماوية، كما توجد هذه الأسلحة أيضاً فى الهند، تايوان، باكستان، الصين وفيتنام.

 

الوقاية من آثاره

 

إذا كان السلاح النووى لا يمكن تجنب آثاره أو الدفاع الناجح ضد أخطار هجماته، فإن التصدى للسلاح الكيماوى صعب أيضاً إذا كان الهجوم مفاجئًا، والتعرض له تم دون اتخاذ الإجراءات الوقائية، كارتداء الأقنعة الواقية الخاصة المتطورة، أو السترات الحامية التى تمنع وصوله إلى الجلد، كما أن الكشف المبكر والسريع عن التعرض للتسمم الكيماوى، يطرح فرصة للنجاة منه بحقن المصابين به حقن مضادة لهذه السموم، وإن كانت فرص النجاة منه فى العموم ضعيفة للغاية، حيث تلازم الآثار السلبية والخطيرة كل من يتعرض للهجوم الكيماوى، وفى حال تلوث منطقة كيمائياً، يجب بسرعة إخلاء المنطقة، وفرض القيود على الحركة منها وإليها، والقيام بعمليات الوقاية والتطهير الضرورية والسريعة.

 

رغم التزام معظم دول العالم بعدم استخدام الأسلحة الكيمائية بصورة معلنة، والإعلان عن تدمير الترسانات الموجودة بها، فإن الاعتبارات السياسية والصراعات والأطماع الدولية، تجعل الأمل فى إخلاء العالم منها أملًا بعيد المنال، خاصة فى مناطق الصراع الملتهبة، التى لا ينجو منها الشرق الأوسط، يضاف إلى ذلك أنه اعتبارًا من عام 2016، لا تزالُ قوات الأمن والشرطة وقوات مكافحة الشغب فى معظم دول العالم تستعملُ غاز «سى إس» و«رذاذ الفلفل» باعتِبارهما أسلحة غير فتاكة معَ أن لهما بعض الخطورة على جِسم الإنسان.