رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الشيخ أحمد محروس.. كفيف بـ"عظم زجاجى" وإرادة فولاذية

الأب يحمل ابنه للقمة
الأب يحمل ابنه للقمة

 اهتزت الأرض تحت أقدام الأم، وابتلعت صدمتها، بعدما أبلغتها طبيبة الأسرة أن عينى رضيعها لا تستجيبان لإشارات الإصبع، والمفاتيح، وعدلت عن استشارتها الأصلية بشأن وسيلة منع حمل، لتبدأ رحلة تقصى «فقد البصر».

تتذكر، ورأسها تدور مع الحكاية شجنًا، وبين يديها شهادات تكريم ابنها من وزارة التضامن الاجتماعى، جامعة الأزهر الشريف، ومسابقة الموهوبين بمركز أطفيح، لحظة عرضه لأول مرة على أخصائى رمد، وهو ابن 40 يومًا، ومعاناة الركض خلف الاستشاريين بمستشفى «أبو الريش» على مدار 3 سنوات، مختصرة تفاصيل رحلتها بين عبارتين، الأولى للطبيبة «هل هذا طفل طبيعى؟»، والأخيرة لـ«الاستشارى»: ليس له علاج، لا هنا، ولا خارج مصر.

 الابن «أحمد محروس عبد الغفار» الطالب بكلية أصول الدين جامعة الأزهر، الذى صار حديث وسائل التواصل الاجتماعى لعدة أيام بعد نشر صورته محمولًا على كتف أبيه، لم تتوقع والدته ذات يوم ذيوع صيته على نحو كهذا، وهى تكفكف دموعها حاكية عن تفاصيل ليلة التكريم بجوار وزيرة التضامن الاجتماعى «نيفين القباج»، تستدرك ما جرى عند ارتطامه ذات حبو بالمقاعد، والأبواب، وسقوطه على حين غفلة من أعلى عتبات البيت.

خلف باب حديدى لم يقربه الصدأ، وعلى يمين مدخله مباشرة تجتمع الأسرة الريفية ذات العائل الصبور بعد العشاء، وقتئذ، يعود الأب من عمله بمصنع «360 الحربى»، والابن الأكبر من عمله بالحقل، ويكتمل ونس «الشيخ أحمد» -كما تلقبه الأسرة- وهو على عزلته طيلة نهاره مشغولًا بمراجعة القرآن، ومطالعة الكتب السماعية، ينتظر لحظة اللقاء الأسرى، لا تعرف الأسرة الصابرة شيئًا خارج حيز رغبات ابنها الكفيف، مصدر البهجة، وبوابتها إلى منصات التتويج.

عن جانب آخر خلف الصورة الشهيرة التى حمل فيها الأب ابنه فخرًا على فخر التقت «الوفد» أسرة الشيخ «أحمد محروس»، كأن الأبوين على شوق لكشف النقاب عن كواليس الرحلة من بدايتها، وهما بين «طموحات» لا تتوقف للابن الذى لم تقعده إعاقته، ويعانى على جانب آخر من إصابة خطرة بـ«عظم زجاجى» يتهشم دون سقوط، أو ارتطام بشىء، لكنه يأبى حياة الظل.

تعاود الأم -الأربعينية- الحاصلة على الشهادة الإعدادية، حكايتها مع ابنها الثالث: «بعد أن حملته وهو ابن الأربعين يومًا، واتجهت إلى طبيبة الأسرة، لم أكن أعلم شيئًا عن إعاقته، وكانت زيارتى لأجل الحصول على وسيلة تنظيم الحمل، وفوجئت بتصرف الطبيبة تجاهه، أشارت بإصبعها، ثم بمفاتيحها، وبعدها، لاحظت تغير وجهها، فارتبكت، وسألتنى: هل هذا طفل طبيعى، قلت: نعم، فأردفت: اذهبى به فورًا لأخصائى رمد».

بذهابى لطبيب الرمد -والحديث لها- لم أتوقع إطلاقًا أن تبدأ رحلة مأساوية تطفئ فرحة قدومه بهذه السرعة، الطبيب المتخصص نصحنا بالذهاب لمستشفى «أبو الريش» لتشخيصه بدقة، ولأجل أن نصل فى موعد أطباء القاهرة كنا -أنا وأبوه- نتحرك بعد صلاة الفجر واستمر هذا الأمر ثلاث سنوات، أمضيناها فى الفحص، والتشخيص، وأصعب ما فى الحكاية هو سقوطه، واصطدامه بالأشياء أثناء تعلم المشى عندما بلغ عمره سنة ونصف، هذا الموقف تنفطر له قلوبنا يوميًا، خاصة أننا لم نتأكد ما إذا كان فقد بصره، أم أن ثمة أملاً فى علاجه.

وهناك -حسب روايتها- بمستشفى أبو الريش أبلغنا الطبيب المعالج بقدوم استشارى من الولايات المتحدة الأمريكية، وبث فينا أملًا حملناه فى صدورنا، وذهبنا فى الموعد المحدد، ولدى إخضاع «أحمد» للفحص بأجهزة متطورة، أدار الطبيب ظهره، وقال بلهجة حاسمة: «عنده ضمور فى الشبكية، وليس له علاج، لا هنا، ولا خارج مصر»، ولم أشعر بذاتى إلا ملقاة على أرض المستشفى باكية حد الألم، واستسلمت قائلة: الحمد لله.

يشهق والده «محروس عبد الغفار»، وتغمض عيناه، حين يروى مشهد دخوله غرفة عمليات بمستشفى أبو الريش بعد تشخيص إصابته بتقوس ساقيه حين بلغ عامه الثامن، وقتذاك، لم يكن يستطيع المشى، وقرر الأطباء إجراء جراحة بمستشفى أبو الريش.

ويستطرد -بعد لملمة مشاعره-: «كانت لحظة قاسية حين تجهز لغرفة العمليات، وسيق إليها ممددًا على ظهره، لدى انتظارنا فوجئنا بطبيب متخصص يطلع على تحاليله، ويصرخ فى الأطباء: كيف يجرى جراحة، وهو على هذا الضعف؟، إنه يعانى فقرًا فوسفوريًا حادًا، ويحتاج إلى جرعات مكثفة، وكالسيوم، وأشياء أخرى».

تلك اللحظة على قسوتها حالت بينه، وبين إهدار ساقيه، لأنها -حسب روايته- أخضعته فيما بعد لزيارة أسبوعية لمستشفى أبو الريش لأخذ محلول فوسفورى على مدار 8 سنوات، وبعدها، ولما أصيب بكسر فى ساقه إبان عامه الجامعى الأول، تبين بعد فحص استشاريى مستشفى الحسين الجامعى إصابته بـ«مرض نادر» يسمى «عظم زجاجى».

اتكأ الوالد، وهو يكشف كواليس ما قبل إلحاقه بالتعليم الأزهرى، لافتًا إلى أن التجربة بعد وصوله لسن خمس سنوات ألقت ظلال الصبر على الأسرة، والرضا بالمقدور، وكان أملى حينئذ أن يحفظ القرآن كاملًا، فسألت، واستشرت، وقيل لى: مستقبله فى الأزهر الشريف.

شىء ما لا يغيب عن خاطر الأب بعد إقناع شقيقه الأكبر «طارق» -وهو فى الصف الثانى الابتدائى بالتعليم العام- أن يتنازل عن عامين لأجل صحبة «أحمد»، والحفاظ عليه من مغبة التنمر الريفى المقيت، ويستدرك، وهو يدير بصره لـ«الابن الأكبر»: لقد انطلقا معًا منذ المرحلة الابتدائية حتى إتمام شهادة الثانوية الأزهرية، وبعدها أقنعت طارق مرة أخرى بالتحويل من كلية الشريعة إلى كلية أصول الدين حيث أمنية أخيه، وحلمه منذ نعومة أظفاره»، ويستطرد قائلًا: «أشعر بعض الوقت بأنى ظلمت ابنى طارق، ولكنها تصاريف القدر».

ولم تكن الرحلة إلا مشقة من فوقها مشقة حسب رواية «أحمد محروس»، حين استقر الرضا بالإعاقة البصرية، وشق طريقه بالتعليم الأزهرى، كانت أيام المرحلة الابتدائية مقسومة على ترحيب الأساتذة، وسخرية التلاميذ، لولا أن أخاه طارق أخذ بناصية مؤانسته.

يتذكر حين كان الطالب الكفيف الأوحد فى معهد أزهرى، وفى فصل يضم 37 طالبًا، وانصراف المدرسين عن الاهتمام به، ولما طلب من أحدهم تعريفه بحروف الهجاء رد عليه بقوله: «لست فى حاجة لتعلم الحروف، استمع فقط».

«أحمد» الذى منحه رئيس جامعة الأزهر قلادة أزهرية لا يرتديها إلا هو ونائبه أضاف لـ«الوفد»: عشت أيامًا قاسية من الوحدة، والعزلة فى المرحلتين الابتدائية، والإعدادية، لدرجة أننى طلبت سحب أوراقى من المعهد الأزهرى فى الصف الثانى الإعدادى، والالتحاق بمدرسة النور والأمل بمنطقة الزيتون، لكن بُعد المسافة مع ضيق إمكانيات أسرتى حالا بينى وبين الالتحاق بها، وعند هذه اللحظة يئست تمامًا من التعلم، وبات حفظ القرآن فى مقام المستحيل.

لم يكن لدى خيار -والحديث لأحمد- إلا استكمال مشوارى، والرضا بتجاهلى فى الكتاتيب، والفصول، وبدا لى حينئذ إبلاغ شيخ المعهد برغبتى فى التعلم، وتعرضى للتنمر المؤذى، فاحتضننى، وحذر التلاميذ فى طابور الصباح من التندر علىّ، ودعانى لمكتبه مبشرًا بمستقبل مشرق على

خطى د. طه حسين.

ويستطرد: رفع عنى الأزهر مادة الجغرافيا فى الصف الثالث الإعدادى، وقرر مادة «متن الشاطبية»، وهى معنية بعلم التجويد، ولا أستطيع دراستها بمعزل عن القرآن، وخصص لى المعهد الشيخ «شويمى عبد الحي»، وسألنى آنذاك: هل أنت مستعد لحفظ القرآن، فقلت: نعم.

وذات درس -على حد وصفه- قرأ عليه شيخه أول خمس آيات من سورة البقرة، سجلها الطالب على هاتف محمول، وحين عاد إلى منزله طلب من أمه، وقد بلغ يأس الأسرة من حفظ القرآن مبلغه، أن تراجعه الآيات، ولدى تسميعه، انكفأت باكية على الأرض تقبلها بالدموع.

 واستمرت الرحلة اليومية على مدار عام ونصف، لم يتأخر الشيخ إطلاقًا، ولم أقصر مرة واحدة، حتى أتممت حفظ القرآن كاملًا فى 21 مارس 2017.

اندمج «أحمد» اجتماعيًا -حسبما يروى- حين التحق بمسابقة الموهوبين بمركز أطفيح كضيف شرف فى حفل الافتتاح، وهى المرة الأولى التى يتلو فيها القرآن بمحفل عام، وانطلق كمتسابق فى فئة الترتيل، ثم انضم لورشها التدريبية، ولاقى بدعم مؤسسيها، وموهوبيها عوضًا عن أيامه الجافة بالمعهد الأزهرى.

تقول والدته: إن حياته تغيرت تمامًا بعد التحاقه بمبادرة «بوابة الموهوبين»، أحاطوه بمحبتهم، وخلقوا له مجتمعًا يأنس إليه، ويحطم أسوار عزلته على صخر الأمل.

فى الجامعة، شقيقه طارق عصاه التى يتوكأ عليها، وعينه التى يبصر بها، يحمله ذهابًا وإيابًا لكلية أصول الدين، ويقرأ له دروسه، ولكنها رحلة -حسب قوله- لا تتوقف مآسيها.

قبيل امتحانات عامه الدراسى الأول بكلية أصول الدين، وبينما هو خارج من دورة المياه، سقط فى وضعية الوقوف دون ارتطام، أو تزحلق، كسرت ساقه، وأمضى «أحمد» شهورًا دون جبس، مشدودة قدماه على شدة حديدية، قال الأطباء وقتذاك، من الصعب تركيب شرائح ومسامير لعظمه الزجاجى.

واقترح طبيب أن يحقن بحقنة نادرة الوجود فى القاهرة، مهمتها تعزيز عظام الساق، على أن تجرى الجراحة -حسب رواية أبيه- على أربع مراحل، ليصبح الطالب قعيدًا لفترة استغرقت نحو 3 أشهر.

ولحرصه على طلب العلم لم يؤجل أحمد امتحانات نهاية العام، وانطلق محمولًا مرة على كتف أبيه، ومرة على كتف شقيقه لكن ثمة عائق بدا له على حين فجأة فى ضرورة أن يكون مرافقه فى الامتحانات حاصل على دبلوم متوسط، وهو ما اعتبره الطالب نفقًا ينتهى به إلى إعادة السنة.

سعى «الحاصل على المركز الأول بكلية أصول الدين» -مكفوفين- لاستقدام مرافق يجيد الإملاء، ولأجل هذا ذهب إلى مكتب رئيس الجامعة، وهناك، وعلى حد رواية والده- تأجل دخوله بسبب ارتباط المكتب بلقاء تليفزيوني، ولما علا صوت الوالد، آثرت السكرتيرة إبلاغ رئيس الجامعة، ودخلا، وسأله د. المحرصاوى: ما اسمك؟.. فأجاب: الشيخ أحمد محروس.

وجرى نقاش مطوّل بينهما حول آلية المرافق، وفوجئ رئيس الجامعة بحفظه الجيد للقرآن، ومتشابهاته، نحو نصف ساعة من أسئلة عميقة فى الفقه، والقرآن من رئيس الجامعة، ونائبه، انتهت إلى مكافأة مالية، وقلادة أزهرية.

وحلم الطالب الطموح بـ«جهاز لاب توب ناطق» مخصص للمكفوفين، حيال ذلك، كانت وزارة التضامن الاجتماعى قد أعلنت عن مؤتمر تكافؤ الفرص لذوى الهمم المتميزين، وخصصت لهؤلاء أجهزة حاسب آلى شخصى ناطقة، ولأن الأسرة على قدر بساطتها معلقة بالسماء، اختارت جامعة الأزهر «أحمد محروس» ضمن متميزيها المكفوفين.

الصورة التى دفعت بـ«أحمد محروس، ووالده» لعالم التواصل الاجتماعى ليست أعظم أثرًا مما رواه شقيقه طارق عن يوم «المترو»، يقول: كنت أحمل حقائبنا لدى عودتنا من الجامعة على ظهرى، وشقيقى على كتفى، وتأهب مترو الأنفاق لغلق الأبواب، فأسرعت جريًا قبل أن يغلق الباب، وفوجئت بالسائق يشير إلىّ بيده ألا أتسرع، وفتح لى باب الكابينة، وسأل عن حكايتى أنا، وأحمد.

وعن تداول صورة التكريم بحفل وزارة التضامن الاجتماعى يقول الوالد: أحمله على كتفى دائمًا أينما أراد، ووقتما يريد، وأثناء الحفل الذى أقامته الوزيرة «نيفين القباج» بأحد فنادق القاهرة كنا نجلس فى آخر القاعة، ونودى على «أحمد» أكثر من مرة، ونظرًا للزحام فضلت أن أحمله، وأسرع به إلى المنصة، ولم أنشغل إطلاقًا بالتصوير، ولا بكاميرات التليفزيون، كل ما أريده «أن أحصد حسنات، وأجرا من الله فى جوار الشيخ أحمد».

الأسرة الملهمة فى كفاحها، وصبرها تأمل فى شقة سكنية بجوار كلية أصول الدين -جامعة الأزهر- لتخفيف حمل التنقل على «أحمد وشقيقه»، والطالب الأزهرى المثابر يحلم بعد علاجه من مرض العظم الزجاجى، أن يؤدى عمرة، وعلى امتداد الحلم «أن يكون عميدًا لكليته ذات يوم».

 

امتنان واحترام من الشيخ أحمد لرئيس جامعة الأزهر