رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

مدير متحف مكتبة الإسكندرية يكشف أسرارا جديدة عن إخناتون وأناشيد آتون ومزامير داود

 هل كان أخناتون هو أول الموحدين؟ وهل كان هو الملك الموحد الأول القادم من مصر القديمة والشرق الأدنى القديم؟ وهل ما قام به أخناتون من ثورة دينية بالقضاء على كل المعبودات الأخرى يعد أمرًا توحيديًا كما نعرف التوحيد بمفهومنا الحالي في العصر الحديث؟ وهل كل إله أخناتون، المعبود آتون، إلهًا جديدًا أم كانت له جذوره في مصر القديمة ولم يكن إلهًا مستحدثًا دفع به أخناتون إلى صدارة المشهد الديني في مصر القديمة في النصف الثاني من الأسرة الثامنة عشرة في عصر الدولة الحديثة عصر الإمبراطورية المصرية الفسيحة في مصر والشرق الأدنى القديم؟ وهل هناك تشابه بين أناشيد أخناتون لربه آتون ومزامير نبي الله سيدنا داود عليه السلام؟ وهل كان هناك تأثر بدعوة أخناتون بعد نهاية فترة حكمه؟


تعتبر فترة العمارنة (نسبة إلى عاصمة أخناتون الجديدة في تل العمارنة في المنيا في مصر الوسطى) من أهم الفترات التاريخية في مصر القديمة التي حدثت بها تطورات بل طفرات في كل مظاهر الحياة بل والعالم الآخر. وعصر العمارنة هو عصر الثورة في مصر الفرعونية على كل المستويات. ففي هذا العصر حكم مصر ملك جديد أحدث ثورات على كل الأصعدة التقليدية وقلب الأمور رأسًا على عقب في فترة زمنية قصيرة عادت بعدها الحياة في مصر القديمة إلى مجراها شبه الطبيعي وسابق عهدها بعد اختفاء قسري لذلك الملك أو إقصائه وإنهاء زمنه وتاريخه من قبل كارهيه ومعارضيه من أنصار الملكية المصرية المستقرة وكهنة المعبودات الأخرى الذين قضى عليهم أخناتون وأزاحهم عنوة من المشهد السياسى في مصر القديمة. 


وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الآثار التي تركها عصر العمارنة على معاصريه ولاحقيه لم تختفِ كلية من المشهد كما كان يظن هؤلاء الكارهون لتلك الحقبة الأكثر إشكاليًا وإثارة في تاريخ مصر القديمة قاطبة بل امتدت تلك الآثار إلى ما بعد عهد الفرعون الموحد الملك أخناتون لفترة ليست بالقصيرة. 


الديانة الآتونية.. ديانة آتون


لقد كان الدين من بين أهم العناصر المميزة التي قامت عليها دولة الملك أخناتون ودعوته الدينية الجديدة. ولعب الدين دوره الكبير بامتياز في فترة العمارنة الفريدة في التاريخ المصري القديم كله. وانصب اهتمام الملك الشاب على الديانة الشمسية أو ديانة الضوء وعلى معبوده الجديد "آتون" الذي جسده الملك فنيًا على هيئة قرص شمس تخرج منه أيد بشرية تمسك بعلامة "عنخ" كي تهب الحياة للبشرية جمعاء من خلال الوسيط الملك أخناتون وأفراد عائلته المقدسة. وكان الأمير أمنحتب (الملك امنحتب الرابع بعد ذلك) قد تعلق بديانة الشمس وتحديدًا قرص الشمس "آتون" منذ أن كان صغيرًا. وتأثر كثيرا بخاله الذي كان كبيرا للرائيين في معبد الإله رع إلى الشمس في مدينة الشمس: هليوبوليس (منطقتا عين شمس والمطرية الحاليتان في شرق محافظة القاهرة).

 

وكان والده الملك أمنحتب الثالث وجده الملك تحوتمس الرابع قد دعما من ديانة آتون من قبل، غير أن أخناتون أخذ الخطوة الأكبر ووصل بديانة آتون إلى قمتها ونهايتها في الوقت عينه. وعندما صار الأمير أمنحتب ملكًا غير اسمه في العام السادس من حكمه من أمنحتب الرابع إلى "أخناتون" أي "المفيد لآتون" كي يكون على أتم الاتساق مع دعوته الدينية الجديدة ومعبوده الجديد قرص الشمس آتون الذي أراد من خلاله أخناتون أن يحقق العالمية لدعوته؛ نظرًا لوجود الشمس في مصر وكل مكان من بلاد الشرق الأدنى القديم؛ وبذلك يستطيع أن يتعبد إلى ذلك المعبود الكوني البشر في معظم أرجاء الإمبراطورية المصرية الفسيحة التي شيدها جده الأعلى الفرعون المحارب الملك تحتمس الثالث في أسيا وأفريقيا. 


ولقت الدعوة الدينية الجديدة استحسانًا من قبل زوجته الجميلة والذكية الملكة نفرتيتي التى صارت من أقوى المناصرين للملك أخناتون ودعوته الجديدة وصارت صنوًا له وعنصرًا مكملاً للدعوة الآتونية والديانة الشمس. وكان ينقص المشهد شىء مهم إن لم تكن الملكة الجميلة موجودة به، إن لم تكن منافسة للملك الموحد.
معبد لآتون في الكرنك بيت آمون المقدس


في بداية حكمه، بنى الملك أخناتون معبدًا للإله آتون في الكرنك، المكان المقدس للمعبود آمون رع، مهددًا بذلك دولة آمون رع الأزلية المستقرة وكهنته ومتحديًا إياهم في عقر دارهم مما جعلهم يضمرون له الحقد ويكيدون له المكائد حتى ترك مدينتهم طيبة العاصمة العريقة لمصر القديمة في عصر الدولة الحديثة وارتحل إلى مدينة جديدة لم تدنسها قدم إنسان من قبل. وقامت دعوة أخناتون على جمع كل الآلهة في إله واحد هو معبوده آتون. ولم يجسد الملك أخناتون إلهه الجديد في شكل آدمي على الإطلاق.

 

وكانت فكرة العدالة والنظام الكونى جزءًا من ديانة أخناتون الجديدة. وكانت فكرة النور والضياء جزءًا لا يتجزأ من الدعوة الآتونية في مقابل الظلام وقوى الفوضى.

 

ولا تنطوى دعوة أخناتون على فكرة التوحيد كما نعرفها حاليًا، وإنما كان الهدف من تلك الدعوة بدمج المعبودات في إله واحد هدفًا سياسيًا كي يحد من سيطرة المعبود آمون رع وكهنته على الحكم في تلك الفترة. وحاول أخناتون أن ينجح في ذلك، لكن الحظ لم يحالفه طويلاً؛ نظرًا لوقوعه في عدد من الأخطاء الكارثية الكبيرة، وكذلك إنغلاق دعوته، وقيامها على شخصه وأفراد عائلته فقط، وتسرعه وقصر فترة حكمه، واعتماده على عدد من المنافقين والمنتفعين الذين انقلبوا عليه حين انتهت دعوته وانفضت دولته وخارت قواها. 


هل كانت دولة أخناتون دولة دينية؟


على عكس ما يشاع لم يقم أخناتون بتأسيس دولة دينية على الإطلاق. ومن المعلوم أن الدولة الدينية الوحيدة التي قامت في مصر القديمة كانت في عصر الأسرة الحادية والعشرين، عندما استغل كهنة الإله آمون في مدينة طيبة ضعف السلطة المركزية بعد نهاية الدولة الحديثة، وقفزوا على السلطة، وأسّسوا تلك الأسرة التي حكمها كهنة آمون من الجنوب في حكم ثيوقراطي لم يكن مقبولاً من الجميع وسرعان ما انتهى بتأسيس الملك شاشانق الأول للأسرة الثانية والعشرين محققًا عظمة الأجداد من ملوك الدولة الحديثة. ولم تستمر دولة أخناتون طويلاً.

 

بسبب كثير من الأخطاء الكارثية الكبرى التي حاول الملك أخناتون القيام بها مثل محاولته الدوؤب تغيير الهوية الحضارية للدولة المصرية المتسامحة والتى تقبل التعدد بامتياز، وكذلك محاولته إقصاء كل ما ومن هو ضده، وأيضا زلزلة ثوابت الدولة المصرية العريقة، وإهمال سياسة مصر الخارجية وممالكها المهمة في بلاد الشرق الأدنى القديم، والاكتفاء بالدعوة الدينية لمعبوده الجديد والتجديدات الفنية واللغوية والأدبية التي لم تمس عمق المجتمع ولم يتقبلها كلية، فضلاً عن التغيير الفوقي الذي أراد فرضه على الجميع في وقت زمني قصير، علاوة على عدم الاهتمام بالتراث المصري الحضاري العريق الممتد في الشخصية المصرية لآلاف السنين قبل بزوغ دعوته الدينية القائمة

على الأحادية ونفي المعبودات الأخرى وكهنتها المتنفذين، وعدم الالتفات إلى طبيعة الثقافة المصرية وكذلك الشخصية المصرية وفهم مكوناتها ومكنوناتها، فكانت نهايته المأوسوية. ونظرًا لأنه كان أيضًا هو الوسيط الوحيد بين معبوده آتون والشعب، فانتهت الدولة بانتهائه، وغابت الدعوة بغيابه. وانقلب المنافقون الذين ذهبوا معه إلى مدينته الجديدة بعد رحيله ولعنوه ولعنوا دعوته وهجروا مدينته وأطلقوا عليه "الملك المهرطق" و"المارق من تل العمارنة".
أناشيد أخناتون ومزامير داود
كتب الملك أخناتون الأناشيد التي كان يناجي فيها ربه الإله أتون. وتمثل أناشيد آتون أهمية كبرى من الناحيتين الدينية والأدبية لما بها من أفكار دينية متقدمة وخلاقة وإبداعية تتشابه مع ما جاء في المزمور رقم 104 من مزامير نبي الله سيدنا داود عليه السلام. فيرى البعض أن هناك تماثلاً كبيرًا بين بعض الجمل والمفردات والتعبيرات الأدبية والسياقات اللغوية وكذلك في المضمون الكلي بين نشيد أخناتون ومزمور النبي داود المشار إليه. وتصور بعض الباحثين والعلماء أن مزمور نبي الله داود قد تأثر إلى حد كبير بنشيد أخناتون إلى ربه آتون، على الرغم من طول الفترة الزمنية التي تفصل بين النشيد والمزمور؛ فقد عاش الملك أخناتون (وليس النبي كما يدعي بعض الهواة وبعض الباحثين) في القرن الرابع عشر قبل ميلاد سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا سيدنا محمد أفضل الصلاة وأتم السلام، في حين عاش نبي الله سيدنا داود عليه السلام في القرن العاشر قبل الميلاد. وقد رأى بعض العلماء أن الأمر لا ليس إلا مجرد توارد خواطر ليس إلا؛ ففي النصين اللغويين يناجي الملك أخناتون ربه آتون ويناجي النبي داود الله سبحانه وتعالى. ومن هنا جاء التقارب والاتفاق في ذكر وتعديد نعم الرب وأفضاله وآلائه. ويمثل نشيد أخناتون أدبًا رفيعًا ضمن عيون الأدب العالمي حيث يمتاز النشيد بروعة البلاغة وسلامة العبارة وسلاسة اللغة وروعة التعبير وحسن السياق وتواصله وتوافقه. وهناك النشيد الكبير لآتون والنشيد الصغير لآتون. وتم نقشهما على جدران بعض المقابر من رجال حاشية أخناتون في عاصمته في تل العمارنة. غير أن النسخة الكاملة من النشيد جاءت إلينا من مقبرة "آي". ويشير النشيدان إلى قدرة الرب آتون في خلق الكون والبشر والكائنات جميعًا، دون ذكر لأي معبود آخر في الخلق، باعتبار رب أخناتون الإله آتون هو الخالق الأعظم. ومن أجواء النشيد، نذكر ما يلي:
"أنت تطلع ببهاء في أفق السماء،
يا آتون الحي، (يا) بداية الحياة،
عندما تبزغ في الأفق الشرقي،
تملأ كل البلاد بجمالك،
أنت جميل، عظيم متلألئ،
وتعلو فوق كل بلد،
وتحيط أشعتك بالأراضي كلها التي خلقتها،
لأنك أنت "رع" وتصل إلى نهايتها،
وتخضعها لابنك المحبوب،
وبالرغم من أنك بعيد،
فإن أشعتك على الأرض،
وبالرغم من أنك أمام أعينهم،
فلا يعرف أحد خطوات سيرك".
نهاية دولة أخناتون
لم يبق من عصر العمارنة إلا أصداء العمارنة التي ما نزال نراها ماثلة أمامنا كذكرى على حكم لم يعمر سياسيًا طويلاً غير أنه ترك آثارًا تشهد على أهمية الفترة دينيًا وفنيًا ولغويًا وأدبيًا. ويكفي أن نلقي نظرة على تمثال الجميلة نفرتيتي كي ندرك روعة الفن وصدق الإيمان بالدعوة من قبل قلة من بعض مؤيدي الملك أخناتون وتوظيف الفن في خدمة الديانة الآتونية والملك أخناتون وعائلته الملكية ودعوته الدينية وفلسفته في الحكم ونظرته للدين والحياة؛ لأنه عصر العمارنة الفريد بكل ما له وعليه.
وفي النهاية، أقول إن دعوة أخناتون لم تكن دينية خالصة، وإنما كانت لأغراض سياسية أيضًا وكان الهدف منها القضاء على دولة الإله آمون وكهنته وإنهاء سيطرة دولتهم على حكم البلاد. ومن الناحية الدينية، لم تكن دعوة أخناتون جديدة، وإنما جاء برب له أصول في مصر القديمة ودفع به إلى المقدمة وصدارة المشهد الديني في فترة حكمه القصيرة، وجمع بين ربه آتون وآلهة أخرى. ولم ينس أفراد الشعب المعبودات الأخرى التي تربوا على معرفتهم بها، حتى بعض أفراد أخناتون قدموا القداسة إلى رب الموتى أوزيريس. إن كل هذا قد ساهم في فشل دعوة أخناتون الدينية التي كانت غريبة وتقوم على الإقصاء وتخلط الأفكار والمعتقدات ببعضها البعض، وتنسى أشياء كثيرة مستقرة في الوجدان الديني الجمعي المصري المتأصل عبر العصور. وعادت الحياة إلى سابق عهدها في عهود خلفائه، مع تسرب بعض الأفكار الدينية الخاصة بأخناتون في الفترات التالية. وتبقى دعوة أخناتون الدينية دعوة لم يُكتب لها النجاح والاستمرارية واختفت كما جاءت، وبقيت ذكرى على فترة أثارت مصر القديمة وزلزلت كيانها الديني والسياسي والثقافي.