رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

اللواء حسام سويلم يكتب: جمال حمدان و«الجبرتى» يكشفان التخلف الحضارى التركى «1 ـ 2»

مشروع «أردوغان» الإمبراطورى امتداد للتاريخ الدموى للإمبراطورية العثمانية

«ترامب» يحاصر النظام التركى بتعويض «الأرمن» من الإبادة على يد أجداده

نجاح مصر فى إسقاط نظام حكم الإخوان أفشل مخطط خليفة أتاتورك

«حمدان» يصف استراتيجية العثمانيين للهيمنة على المنطقة بقفزات الضفدع

«أردوغان» يتقرب للغرب للاستفادة منه سعياً للسيطرة على العالم الإسلامى

 

ـ أحسنت وزارة الثقافة فى اختيار شخصية العالم المصرى د. جمال حمدان كشخصية محورية، لأول مرة فى معرض القاهرة الدولى للكتاب الـ51 الذى أقيم فى 22 يناير الجارى بعد 27 عاماً من يعزز فيهم ويغرز قيم الولاء والانتماء الوطنى لبلدهم، وذلك فى خضم الأحداث والحملات الاعلامية المعادية الضارية فى الداخل والخارج، والتى تستهدف إفساد الوعى القومى عند المصريين، وضرب  الأمن القومى فى بعده الداخلى، بنشر الأكاذيب والشائعات عن تاريخ وعراقة مصر، وهو ما تنبأ به جمال حمدان منذ أكثر من نصف قرن، ولذلك حرص من  خلال كتبه وأبرزها كتاب «شخصية مصر.. دراسة فى تعريف المكان» والدراسة الأخرى «نحن وأبعادنا الأربعة» على إبراز حقيقة الجوهر الحضارى والثقافى لمصر» عبر تاريخها الطويل وذلك من خلال موقعها الجغرافى المتميز اقليمياً ودولياً وتأثيرها الايجابى على شعوب هذه المنطقة على عكس بلدان أخرى فى نفس المنطقة ومنها تركيا ـ كان ولايزال لها تأثير سلبى وتخريبى عليها.

 

تركيا بلا تاريخ ولا جنود جغرافية

ـ يقول حمدان فى ص 156من دراسته «نحن وأبعادنا الاربعة ما نصه: «ربما ليس اكثر من تركيا نقيضاً تاريخياً وحضارياً لمصر، فهى بلا تاريخ، بل بلا جذور جغرافية انتزعت من الاستبس كقوة شيطانية، مرحلة اتخذت لنفسها من الاناضول وطناً بالتبنى وبلا حضارة بل كانت طفيلة حضارية خلاسية، استعارت حتى كتابتها من العرب، ولكن أهم من ذلك تمثل فى الضياع الحضارى والجغرافى،  غيرت جلدها، وكيانها اكثر من مرة: فالشكل العربى استعارته ثم بدلته بالشكل اللاتينى، والمظهر الحضارى الآسيوى نبذته وادعت الوجهة الأوروبية ولعلها بين الدول ـ كما قيل ـ الدولة التى تذكر بالغراب يقلد مشية الطاووس، وهى فى كل أولئك النقيض المباشر لمصر ذات التاريخ العريق والأصالة الذاتية والحضارة الانبثاقية».

ـ ويمضى د. جمال حمدان شارحاً التحول فى تاريخ تركيا بعد سقوط الامبراطورية العثمانية، فيقول: «بعد سيادة مطلقة طويلة على شكل الدولة العثمانية والخلافة لاسلامية انسحبت تركيا الكمالية ـ نسبة لكمال أتاتورك أول رئيس لتركيا بعد سقوط دولة الخلافة ـ فجأة  من الاسلامية، وأدارت ظهرها للعالم الاسلامى وتخلت عن امبراطوريتها الفضفاضة متجهة إلى العزلة المحلية وعلى الوطنية الشوفينية العنصرية الضيقة فى صورة الاناضولية وتركيا الصغرى ثم منها  نبذت أسيويتها وتوجهت صوب أوروبا والأوروبة، لتصبح بعد ذلك ذنب أوروبا بعد أن كانت رأس العالم الاسلامى.. وكان تحول تركيا عن الشرق الاسلامى والاتجاه الى الغرب الاوروبى قد تم بعد مراحل طويلة للغاية من لعبة توازن ومضاربة القوى العظمى ببعضها البعض لتحافظ هى على كيانها المتآكل.. حيث عزلت نفسها فى اطار الاناضولية الضيقة لا «الطورانية الاسيوية» الواسعة، بالاضافة اصلاً الى الأوربة والتغريب.. وقد تم ذلك فى اطار عملية جراحية مميتة.. اتسمت بالارهاب المسلح وبقوة الحديد والنار السافرة».

 

أولاً: أصول الأتراك

ـ يختلط الأمر على الكثيرين عند قراءتهم ومقابلتهم لفظ «للترك» فيحسبون انهم أولئك الذين يعيشون بدولة تركيا ولا يدركون أن «الترك» مصطلح أوسع من «الأتراك» سواء كانوا العثمانيين أو الدولة التركية المعاصرة كما يخطئون كذلك، اذ يحسبون ان الترك لم يظهروا فى التاريخ العربى الاسلامى الا فى القرن الثالث عشر عند قيام دولة العثمانيين.

ـ والواقع ان العرق التركى يرد ذكره منذ ما قبل الاسلام بقرون ثم يظهر فى التاريخ الاسلامى بمراحله المختلفة، والقارئ لتاريخ علاقات الترك بالعرب فى التاريخ الاسلامى يستطيع ان يستخلص نتيجتين: الأولى ان المد التركى على المساحات الاسلامية العربية قد سبق ظهور العثمانيين بمئات السنين والأخرى أن من بين الدول الإسلامية التركية فإن الدولة العثمانية تعد هى الأحط حضارياً والأسوأ أثراً رغم شهرتها الكبيرة بين قريناتها.

ـ فقبل ميلاد المسيح بقرون ظهر الترك بين منطقتى التبت والصين بشمال جبال الهيمالايا، حيث يربطهم المؤرخون بصلة نسب، ومن حيث الصفات العرقية أو نمط الحياة عشائر بدوية رعوية متنقلة محاربة وكنتيجة لهذا النمط من الحياة كان من الطبيعى ان يقع تماس وتداخل بين تاريخ الترك وتواريخ الامم المتاخمة من صينيين وفرس وهنود، حيث نزع الترك الى اقامة ممالك ومناطق نفوذ، معتمدين فى ذلك على ما يملكونه من «خزان بشرى» يضخ الكتل البشرية المتحركة فيما حوله، ما أدخل الاتراك فى صراعات مع الدول المجاورة ـ وأبرزها الصين ـ الذين حاولوا طردهم أو اخضاعهم وايضاً الامبراطورية الرومانية كما اتجه بعض الكتل التركية الى غرب اسيا المسماة «تركستان الشرقية» حيث اقاموا ممالك وامارات فى المنطقة التى تشغلها  حالياً دول مثل تركمانستان وأوزباكستان.

وكانت بداية احتكاك العرب المسلمين بالترك فى عهد الخليفة الثانى عمر بن الخطاب عندما أسقط المسلمون الامبراطورية الفارسية وورثوا مملكتها فأصبحوا مجاورين للممالك والامارات التركية التى كانت فى تصارع وشقاق دائمين وعبثاً حاول المسلمون دعوة أهالى تلك الدول الى الاسلام لكنهم كانوا يواجهون بالعداء والتحرش مما تسبب فى هجمات متبادلة فرضها الجوار بين ثقافتين متناقضتين الا ان التمدد الاسلامى الحقيقى باتجاه الأمم التركية فيما وراء النهر «نهر جيحون» بدأ فى العصر الاموى فى عهد الخليفة الوليد بن عبدالملك الذى استطاع ان يرفع راية المسلمين على مساحات واسعة من بلادهم وانضم الترك فى العصر الاموى للفئة الموسومة بـ«الموالى» ـ أى المسلمين من غير العرب، والذين عانوا من العنصرية العرقية للأمويين الذين تعصبوا للعنصر العربى على حساب غيره من العناصر العرقية. وكان  من نتيجة ذلك ان انحاز الترك مع الفرس الى جانب العباسيين فى ثورتهم على بنى أمية التى انتهت بالقضاء على دولتهم وقيام الدولة العباسية سنة 750م وتصاعد  نفوذ الاتراك فى هذه الدولة فى عهد الخليفة المعتصم بالله، فكان لهم مواقع متميزة فى مؤسسات الدولة خاصة قادة الجيش.

ـ وتتمثل المرحلة التالية فى التسلط التركى على الدولة الاسلامية فى قيام عدة دول تركية مستقلة ليس للخليفة فيها سوى ضرب اسمه على العملة والدعاء على المنابر وساد التآمر والاغتيالات بينهم وأبرز هذه الامارات كانت امارة احمد بن طولون فى مصر، وكان عادلاً قوياً وأيضاً الوالى التركى محمد بن طفج الذى منحه الخليفة لقب «الأخشيد» والتى استمرت الى ان سقطت الدولة العثمانية على أيدى الفاطميين الذين جاءوا من المغرب وفى الشرق أسس الأتراك دولة السلاجقة التى ضمت فارس والعراق والشام وغرب اسيا ثم تفككت نتيجة الصراعات الأسرية مما أسهم فى سقوط الشام امام الحملة الصليبية الأولى، وعلى هامش هذه الأحداث قامت فى أفغانستان دولة الترك الخوارزميين الذين حاولوا التسلط على الخلافة العباسية ولكنهم دهموا بالاجتياح المغولى بواسطة جنكيز خان لما تولى السلطة مما أدى الى انهيار دولتهم فهاموا فى الأرض كمرتزقة مقاتلين لصالح من يدفع اكثر حتى قضى عليهم الأيوبيون.

ـ وبعد سقوط الدولة الايوبية فى الشام ومصر، ورثتها دولة قوية تنتمى لعرق الترك الغرب اسيويين هى دولة المماليك الاولى التى حكمها سلاطين اتراك حتى سقط حكمهم بتولى أمرها السلطان برقوق الذى أقام حكم الجراكسة المماليك فى العصر المملوكى الثانى حيث بلغت الحضارة الاسلامية فى عهدهم أعلى درجات التحضر والقوة.. وبرزت أسماء قوية منهم فى مجالات علمية وثقافية متعددة.. ومنهم «ابن النفيس» فى الطب و«المقريزى» فى التاريخ و«ابن بيليك» فى الهندسة والعمارة ـ وغيرهم الا ان دولة المماليك اصطدمت بدولة تركية أخرى هى الدولة التيمورية نسبة الى القائد التركى «تيمور لنك» الذى روع الشام والأناضول بغزواته المدمرة، واشتهر ببنائه أبراجاً من جماجم قتلاه، وغزا حلب والشام فى عهد فرج بن برقوق المملوكى فدمرهما وقبض على صناعها وأساطين البناء والمعمار وحملهم إلى سمرقند لبناء عاصمته الملكية وسلك نفس السلوك الذى فعله بعد قرون السلطان العثمانى الأول سليم بعمال وأساطين القاهرة.

 

ثانياً: الترك العثمانيون

ـ تكثر الاساطير التاريخية حول قيام الدولة العثمانية منها ان العثمانيين هم ترك يصل نسبهم الى «يافت ابن النبى نوح» عليه السام، وأن قائدهم الأول ارطغرل وابن سلطان مسلم اسمه سليمان شاه كان يجاهد فى سبيل الله حتى غرق فى نهر الفرات ثم تولى ابنه أرطغرل قيادة عشيرته المنتمية الى عشيرة «قابى» وحكم جزءاً من الأناضول تحت راية السلاجقة، ثم ورث ملكهم بفضل جهاده ضد البيزنطين، وهذه الرواية مشكوك فيها، ويعتقد ان شخصية سليمان شاه هي شخصية خيالية تفتقت عنها أذهان العثمانيين الذين يريدون خلق نسب راق لأصولهم.

ـ فعشيرة «قابى» التركية كانت إحدى العشائر التى اختلطت بالمغول فيقال عنها «تمغلت» ثم اضطرتها حروب «جلال الدين منكبرتى خوارزم شاه» مع جيرانه للنزوح الى الاناضول حيث خرج مقاتلوها كمرتزقة لصالح سلاجقة الروم ومع اضمحلال حكم السلاجقة للأناضول، انتزعت بعض العشائر التركية مناطق نفوذ واقامت عدة إمارات اشهرها «إمارة دلقدار» التى تنتمى لها ام سليم الأول العثمانى وأسوة بها أقام أرطغرل امرأته قرب حدود الدولة البيزنطية.

وأرطغرل نفسه تحيط هويته الاسلامية الشكوك فبينما تقدمه الأدبيات العثمانية باعتباره مجاهداً مسلماً وأول من أسلم من قومه، فإن ثمة تضاربًا فى الروايات حوله، فبعضها يقول انه كان مسلم الأصل وأن ادعاء كونه أول من ادخل الاسلام فى قومه هو مجرد محاولة عثمانية لإضفاء بطولة وشرف له لا يستحقه، وبعضها الآخر يقول انه وعشيرته لم يكونوا مسلمين وإنما اعتنقوا الاسلام فى عهد ابنه عثمان الذى ينتسب له العثمانيون هذا فضلاً عن ان نواة العثمانيين لم تكن كلها منتمية لذات العشيرة التى تذكر المصادر التاريخية أن عددها لم يكن ليتجاوز 4000 فرد، وإنما تشكلت تلك النواة من عملية «ابتلاع وهضم» من عشيرة أرطغرل وعثمان للعشائر الاضعف التى ارتضت أن تنضوى تحت رايتها من عناصر بيزنطية وارمينية سخطت من جور الحكم البيزنطى وضرائبه الباهظة ثم تحركت كرة الثلج لتصير العشيرة امارة ثم سلطنة ثم امبراطورية فكان من الضرورى كسنة الدولةـ غير ذات الأصل الرفيع ـ ان تبحث لنفسها عن «ميلاد مشرف» يليق بمكانتها الجديدة.

ـ ويعد المشروع الامبراطورى الاستعماى لأردوغان امتداداً للتاريخ الاستعمارى الدموى للامبراطورية العثمانية والتى ارتكبت جزائم ضد الانسانية لا أول لها ولا آخر منها على سبيل المثال المجازر بين عامى 1915ـ 1917 ضد الأرمن والتى خلفت اكثر من مليون والنصف من القتلى الأرمن وتهجير آخرين الى مصر ولبنان ودورل أوروبية منذ عام 1915 وحتى عام 1921 حيث وضح المؤرخ التركى «تاثير الشام» فى كتابه «أوامر بالقتل» وأثبت صحة برقيات عثمانية أمرت بتنفيذ الإبادة وقد أشاد الرئىس الأمريكى ترامب بهذا الكتاب ووجدها فرصة للتنديد بالاستراتيجية التركية التوسعية فى المنطقة وانكارها لما ارتكبته الامبراطورية العثمانية من جرائم دموية، كما لم تقتصر جرائم هذه الامبراطورية على ابادة الأرمن بل كان ضمن هذه الجرائم ما سمى بـ«مذابح سيفو»  أى السيف- فى اللغة السريانية إذ شنت القوات العثمانية سلسلة من العمليات الحربية بمساعدة مجموعات مسلحة شبه نظامية كردية استهدفت الاشوريين والكلدان والسريان فى مناطق شرق  تركيا وشمال غرب ايران وقتلت فى هذه العمليات مئات الألوف من الأشوريين كما نزح العديد منهم من مناطقهم ويقدر المؤرخون العدد الكلى للضحايا بحوالى 250 ـ 500 ألف ونتيجة لعدم وجود كيان سياسى يمثل الاشوريين فى المجافل الدولية فإن هذه المجازر لم تحظ بنفس الاهتمام الذى نالته مذابح الأرمن.

 هذا الى جانب ارتكاب جرائم ضد سكان منطقة ناجورنو كاراباخ فى دولة أذربيجان ومعظم سكانها من الأرمن راح ضحيتها علي الأقل 350 ألف قتيل، ناهيك عن المذابح التى ارتبكت ضد الأكراد بين عامى 1947 و1938 وراح ضحيها اكثر من 40 ألف قتيل وقد اعتذر أردوغان بالفعل عن مقتل 13 ألف كردى.

ـ وقد توهم نظام أردوغان أن ما اقترفته الدولة العثمانية من جرائم ستسقط من المحاسبة والذاكرة التاريخية لذلك يواصل ارتكاب الجرائم التى ارتكبها اجداده العمثانيون وهو ما نراه ماثلا أمامنا اليوم فى سوريا والعراق وليبيا متغافلاً حقيقة مهمة يحاول تجاهلها ويحاصره بها الرئيس الأمريكى ترامب وهى ضرورة تعويض من تعرضوا للإبادة من الأرمن على يد الدولة العثمانية، ويتعين على نظام أردوغان اليوم ان

يدفع عنها تعويضات، لاسيما بعد ان اعترف بها الكونجرس الامريكى و30 دولة اخرى طالبت ايضاً بالتعويض وهو ما يلوح به ترامب من وقت لآخر فى وجه اردوغان  عندما يحاول ان يخرج فى ممارساته عن الخط الأمريكى المرسوم له.

ـ يتضح من هذا السرد التاريخى أن المتأمل فى أصول العثمانيين والترك وحركتهم عبر التاريخ العربى الاسلامى تشابه نمطهم مع  نمط اوروبى هو «النمط الجرمانى»، فالجرمان كانوا قبائل بربرية همجية وثنية تصادمت مع الامبراطورية الرومانية ثم تسللت الى اجهزة الجيش والسلطة الرومانية حتى اسقطت تلك الامبراطورية ثم سرعان ما نسى ملوكها اصولهم فحملوا لقب «امبراطور الامبراطورية الرومانية المقدسة» وصاروا يقدمون انفسم كحماة  للدين المسيحى والحضارة الأوروبية كوسيلة لإضفاء الشرعية على حكمهم الذى قام على قانون القوة وهو خطر ينم عن مشكلة نفسية فى الوجدان الجمعى لمن يمارسونه، فلكأنما يستشعرون نقصاً فى شرعية حكمهم القائم على السلاح وليس على نشر الحضارة، فيحاولون إضفاء شرعية زائفة عليه باختلاق أسطورة تاريخية تخدمه لتعطى العمق الحضارى لتلك الدولة على عكس دول أخرى أبرزها مصر التى كان ولا يزال لها عمق حضارى عبر القرون قدمته للعالم ولا تزال قادرة على ذلك.

أسس  الاستراتيجية العثمانية للهيمنة على المنطقة:

ـ وفى كتابه «استراتيجية الاستعمار والتحرير» وصف جمال حمدان خطوات الدولة العثمانية فى التوسع اثناء طور تمددها فى القرن الخامس عشر وما يليه باعتبارها تماثل قفزات الضفدع التى لا تستمر على مسار واحد متصل، بل تترك فجوات بينية دون وصل المناطق التى تستولى عليها مؤقتاً، تمهيداً لفرض حصار على هذه الفجوات لالتهامها عندما تسنح الفرصة.

 

1ـ استراتيجية «القفزات الضفدعية»

ـ وهذه الاستراتيجية غير النمطية فى الهيمنة التى وصفها حمدان بـ«القفزة الضفدعية» تمثلت فى أن التوسع العثمانى لم يكن متصلاً بدءًا من نقطة.. ثم استمر فى اتجاه وخط متتابع بصرامة ثم يترك منطقة فى طريقه ويتخطاها الى ما بعدها ثم يعود الى تلك الأولى، فمثلاً قفز الى البلقان ولم يكن قد سيطر على الأناضول جميعاً، بل ظلت أجزاء وقطاعات لم يسيطر عليها الا بعد ان كان قد وصل الى الدانوب، كذلك ظل مقيماً فى البلقان قرناً كاملاً قبل ان يستولى على القسطنطينية.

ـ وفى حديثه عن التوسع العثمانى فى شمال افريقيا اكد حمدان هذه الحقيقة بقوله «مرة أخرى تتكرر ظاهرة «القفز الضفدعى» التى سبقت فى البلقان، فبينما استولت تركيا على الشام ومصر، ظل العراق فترة غير خاضع لها، كذلك سبق الاستيلاء على الجزائر الاستيلاء على تونس وهذا وقد سبق الاستيلاء على طرابلس، بل يمكن ان نعتبر زحف العثمانية فى المغرب بمثابة تيار عكسى راجع، وأن هناك اكثر من نواة منفصلة  متباعدة بدأ منها الزحف فى العالم العربى، ولهذا فإن الفكرة «الوهلية» ـ أى لأول وهلة أو لحظةـ التى قد تتصور زحفاً قوسياً متصلاً من الأناضول حتى الجزائر، لا مكان لها فى الحققةـ ويبدو واضحاً من هذه الاستراتيجية «الضفدعية» فى الغزوات  العثمانية ان المناطق التى كان يتركها العثمانيون دون هجوم عليها خلال تقدمهم الى ما وراءها وتركها خلفهم كان الهدف منها هو  ارهاق هذه المناطق وتركها تنضج تحت نار هادئة من القلق والحصار حتى تسقط مستقبلاً فى ظروف سياسية  وعسكرية مناسبة للعمثانيين فتسقط بسهولة كثمار ناضجة، سواء نتيجة للتفاعلات السياسية الداخلية منها او الخارجية وتقليص خسائر العثمانيين الى أدنى حد».

واضافة الى هذه الاستراتيجية العثمانية فى التوسع التى جاءت تحت مسوح الدين الاسلامى لتسهيل المهمة منحت الجغرافيا لحكام الأناضول ميزة استراتيجية أخرى أوضحها حمدان فى المقارنة التى عقدها بين قدرات الدولة المصرية ونظيرتها التركية رغم تمدد كلتيهما شمال البحر المتوسط وجنوبه، فتركيا تمثل اكبر جسر برى على الأرض وتصل بين اوروبا وآسيا وتتمتع خلافاً لمصر التى تعد جسراً بين آسيا وافريقيا بالقدرة على المفاضلة بين الانتماءين الأوروبى والآسيوى، خاصة ان تركيا تتحكم فى مضيق البسفور المار الأوحد الذى يسمح لروسيا بالوصول إلى المياه الدافئة. وأوضح ان هذه الميزة التركية لا تتوافر لمصر التى تملك نفس القدرة على المفاضلة بين القوى المختلفة فى علاقاتها بالعالم، بل يعد  تحكمها فى قناة السويس خطراً على الجميع بالقدر نفسه، الأمر الذى يحشد الكل ضدها مهما كانت العلاقة معهم عندما تتهدد الملاحة فى هذه القناة وهو ما حدث اكثر من مرة فى التاريخ لعل أبرزها مواجهة مشروع مصر فى زمن محمد على من قبل الروس والبريطانيين والفرنسيين لصالح دعم العثمانيين.

 

2ـ استراتيجية «البندول» التركى:

ـ كما قال حمدان فى الجزء الثانى من كتابه المشار اليه آنفاً ما نصه: «بينما كان هناك دائماً وإلى الآن حليف من الغرب تطوع متبرعاً لتركيا ضد الجارة العملاقة روسيا ـ كانت مصر على العكس تجد العدو الجاهز المقدم ومن نفس حلفاء وسندة تركيا، دونما حليف يمكن ان تعتمد عليه جدياً بالضرورة».

وقد منح ذلك تركيا القدرة على ممارسة الابتزاز لكل من أوروبا وروسيا على حد سواء وجعل الطرفين يتنافسان من اجل دعم حكام الأناضول، فمن جهتها تسعى أوروبا الى تقريب الأتراك للتأثير على الروس، ومن الجهة الأخرى يبحث الروس عن وسيلة لإرضاء الأتراك لضمان المرور السلس الى المياه الدافئة.

 

3ـ أردوغن رجل أمريكا لتنفيذ «صراع الحضاراتى:

ـ اذا كانت ثنائية «قفزات الضفدع» و«انقلاب البنندول» قادرة على رشح الاليبات الاستواتيجية المتبعة فى توسيع الدولة العثمانية وإدارة علاقاتها الدولي فهى ايضاً قادرة على شرح السياسات التركية الحديثة خاصة فى فترة حكم الرئيس التركى الحالى رجب أردوغان الذى يسعى لاعادة تأسيس الامبراطورية العثمانية البائدة وفقاً لنس المخطط الذى اتبع سلافه.

ـ ففى الفترة الأولى حكمه لجأ اردوغان الى التقارب المبالغ فيه مع الغرب مندفعاً نحو الانضمام الى الاتحاد الأوروبى وتحقيق اكبر استفادة من هذا التوجه إلى الشرق الأوسط فى ملتقى القارات الثلاث ومسارات التجارة والطاقة وهو ما يتمثل اليوم فى لعب أردوغان على حبال كل من أمريكا وروسيا وأوروبا.

ـ وتعنى هذه الحركة أن تغيير النظم السياسية أو شخصيات الحكام فى تركيا أو روسيا أو الدول الأوروبية الكبرى لا يؤثر كثيراً على حركة «البندول التركى» كما توضح الأسباب التى تجعل الروس والأوروبيين حريصين على إبقاء الخصومة مع تركيا فى حدها الأدنى، حتى خلال فترات انتقال سياستها للتقارب مع الطرف الآخر انتظاراً لتكرار دورة الانقلاب السياسى على الحليف واللجوء لطلب العدم من منافسيه.

 

3ـ  أردوغان رجل أمريكا لتنفيذ «صراع الحضارات»:

ـ إذا كانت ثنائية «قفزات الضفدع» و«انقلاب البندول» قادرة على شرح الآليات الاستراتيجية المتبعة فى توسيع الدولة العثمانية وإدارة علاقاتها الدولية فهى أيضاً قادرة على شرح السياسات التركية الحديثة خاصة فى فترة حكم الرئيس التركى الحالى رجب أردوغان الذى يسعى لإعادة تأسيس الإمبراطورية العثمانية البائدة وفقاً لنفس المخطط الذى اتبعه سلافه.

ـ ففى الفترة الأولى لحكمه لجأ أردوغان الى التقارب المبالغ فيه مع الغرب مندفعاً نحو الانضمام الى الاتحاد الأوروبى وتحقيق اكبر استفادة من هذا التوجه فى وقت كان فيه الروس يعانون من جراء تفكك الاتحاد السوفيتى فى تسعينات القرن الماضى ولم يكن لديهم شىء لتقديمه خلال فترة الانكفاء على الذات، فقد شهدت هذه الفترة الترويج للمشروع التركى المعروف باسم «العثمانيين الجدد»، باعتباره الحل الوحيد لمشكلة العالم الاسلامى، العصى على الخضوع للهيمنة الغربية وغير القادر فى الوقت ذاته على تأسيس مشروعه الخاص وفقاً لوجهة نظر الاستراتيجية الغربية، التى فصلها المفكر الأمريكى «صامويل هنتنجتون» فى كتابه «صدام الحضارات».. حيث يوضح هذا الكتاب تحت عنوان «الاسلام.. الوعى دون تماسك» ان المشروع التركى لم يكن وليداً لعبقرية أردوغان ومن معه، بل كان عملياً مجرد اتباع للخطوات التى رسمها المفكر الأمريكى نفسه فى كتابه الصادر فى عام 1996 لكيفية تحقيق الصعود التركى المقبول غربياً، بهدف الهيمنة على العالم الإسلامى، حيث تحدت هانتنجتون عن مشكلة قيادة العالم الاسلامى وافتقاده دولة «قطب» تكون قادرة على إدارته.

فيقول: «فى معظم القرن العشرين لم يكن لدى أى دولة اسلامية قوة كافية ولا ثقافية كافية ولا شرعية دينية للاضطلاع بهذا الدور لكى تصبح مقبولة من الدول الاسلامية والمجتمعات غير الاسلامية كزعيم للحضارة الاسلامية».

 

وللحديث بقية