عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

المستشار لبيب حليم لبيب يكتب: «التناول» بين الشريعة والقانون

بوابة الوفد الإلكترونية

الكنيسة تمتعت بحرية إدارة شئونها منذ دخول المسيحية إلى مصر

«التوبة» سر مقدس يستهدف رجوع الخاطئ إلى الله

«العقوبة».. فرض كنسى على المخطئين لتقويم سيرتهم

 

منذ دخول المسيحية إلى مصر كان هناك تقليد مستقر للكنيسة المصرية، هو النزوع إلى الاستقلال النسبى عن العرش، كان للإكليروس اتصالهم الوثيق بجماهير الأقباط، كما كان للكنيسة حرية الحركة فى تدبير شئونها الداخلية، وتأسيس مؤسساتها اللاهوتية، دون أن تسمح بأى تدخل فى شئونها، كان للكنيسة موقف من الحكم الرومانى حيث ازدادت حركة المقاومة فى مواجهته فى القرن الثالث الميلادى، ونمت قوى المعارضة الشعبية فى كنف الكنيسة، ولم يطرأ أى تغيير على موقف الكنيسة بعد الاعتراف بالمسيحية كديانة رسمية.

وبعد دخول الإسلام إلى مصر، حرص ولاة الأمور على أن ينظموا العلاقة بينهم وبين الرئاسة الدينية، وأن ينظموا علاقة الأقباط برئيسهم الدينى، وأدرك العرب منذ البداية أنه لابد أن يدير بابا الأقباط شئون الكنيسة، ويوضح مؤرخو الإسلام كيف بدأ ما يسمى «نظام التواقيع»، أنه كانت تصدر عن حكام مصر تثبيت انتخاب الرئيس الدينى للأقباط، وهذه التواقيع عبارة عن قرارات تعيين الرئيس الدينى، كذلك حددت الوثائق سلطات وواجبات البابا، فهو مكلف بتنظيم الشئون الداخلية لجماعته، مثل الزواج والمواريث، وعليه أن يحدد مواعيد أعيادهم ومواسمهم، بالإضافة إلى الإشراف على شئون الأديرة والكنائس، ومن بها من الرهبان والأساقفة وغيرهم من رجال الدين.

وقد أعطى التقليد الكنسى عبر العصور للاكليروس دورهم فى إدارة الكنيسة، ورعاية جماعة المؤمنين روحياً ويصنف رجال الكهنوت إلى ثلاث درجات، درجة الأسقفية، ودرجة القسيسية، ودرجة الشماسية، وينتظم رجال الكهنوت مؤسسيًا فى المجمع المقدس، وهو السلطة التشريعية العليا فى الكنيسة، الذى له أن يسن قوانين الكنيسة بما يتفق واحتياجات الكنيسة، وله أن يضع لائحة للمحاكمات الكنيسة، والعقوبات الكنيسة، والمجمع المقدس هو السلطة القضائية العليا فى الكنيسة، ومن صلاحياته أن يحكم على أى صاحب درجة من درجات الكهنوت، وكذلك على أى علمانى يقدم للمحاكمة بتهمة تمس الكنيسة أو تعاليمها، وهو المسئول الأول عن الإيمان والعقيدة.

وجماعة المؤمنين، هم شعب الكنيسة، من غير رجال الكهنوت، وينظم جماعة المؤمنين مؤسسيا، فى كل من مجالس الكنائس المحلية، والمجلس الملى، والقارئ للتاريخ يعرف مسار العلاقة بين الكنيسة والدولة فى مصر فى العصر الحديث والبداية مرحلة صياغة شروط التفاهم التاريخى بين الكنيسة والدولة، فى الفترة من سنة 1856 إلى سنة 1934، وهى المرحلة التى سادت العلاقة بين نظام الحكم، ذى المرجعية العقائدية الإسلامية، والكنيسة القبطية الأرثوذكسية منذ الفتح العربى لمصر، ذلك التفاهم الذى قام على احترام الإسلام لعقيدة الأقباط، ولرئاستهم الدينية، ولحقهم فى تنظيم شئونهم الداخلية، والذى جسده الخط الهمايونى الصادر فى فبراير سنة 1856 ميلادية.

أما المرحلة الثانية منذ سنة 1959 إلى سنة 1970 فإننى أطلق عليها مرحلة التوافق الحميم بين عبدالناصر والبابا كيرلس، ثم تأتى بعد ذلك مرحلة الضغوط المتبادلة بين الكنيسة والدولة، وهى الفترة من سنة 1971 حتى 1981، حيث ظهر فيها البابا شنودة كشخصية دينية، مثقفة تملك أدوات فكرية وسياسية حديثة، وضعته فى موقع مختلف كيفيًا عمن سبقه من باباوات الكنيسة، فأصبح بديلا عن إمكانية تواجد الكوادر العلمانية القبطية الثقافية واستعادتها لحيويتها التى فقدتها فى ظل الدولة الناصرية، ثم تأتى المرحلة ما بين سنة 1982 وثورة يناير 2011 وفيها يتربع البابا شنودة على كرسى البطريركية، ويعلن على الملأ رفضه تنفيذ أية أحكام تصدرها المحاكم متى كانت هذه الأحكام مخالفة لتعاليم الكتاب المقدس.

ثم تأتى المرحلة الراهنة، هى مرحلة التفاهم التام بين بابا الأقباط، ومؤسسة الرئاسة، وفيها حدد دستور سنة 2014 ناصًا فى مادته الثالثة على أن مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين المصدر الرئيسى للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية.

 

«المقصود بالشريعة»

وقد ثار التساؤل عن المقصود بعبارة شريعتهم، أى ما إذا كانت شريعتهم يقصد بها ما جاء فى الكتاب المقدس؟ أم يشمل هذا اللفظ الأحكام التى تستقى من مصادر أخرى؟، وقد استقر قضاء محكمة النقض على أن لفظ شريعتهم، هو لفظ عام لا يقتصر مدلوله على ما جاء فى الكتاب المقدس وحده، بل ينصرف إلى ما أقره رجال الدين فى فتاواهم الروحية، ومجالسهم الدينية والتى صارت عرفا ثابتًا استمد قوته من تطبيقه دواما طويلا، ومن ثم فإن مصادر الشريعة المسيحية هى الكتاب المقدس، وقوانين الرسل، وقرارات المجامع، وأوامر الرؤساء الدينيين، وفقه آباء الكنيسة.

والكتاب المقدس يشمل العهد القديم، والعهد الجديد، فالعهد القديم هو التوارة التى أنزلت على موسى والأسفار التى كتبها أنبياء بنى إسرائيل، من بعده، أما العهد الجديد فهو يتكون من الأناجيل الأربعة، وهى إنجيل متى، وإنجيل مرقص، وإنجيل لوقا، وانجيل يوحنا.

وقوانين الرسل هى كتب تنسب إلى رسل، وتشمل تنظيمًا لبعض المسائل، ولها أهمية خاصة، لأنها تعد المصدر الأول للفقه المسيحى، وتشمل خمسة كتب، ضمها كتاب واحد اسمه الدساتير الرسولية.

أما قرارات المجامع، فهى عبارة عن مؤتمرات لرجال الكنيسة، كانت تعقد للنظر فى شئون الكنيسة، وصدرت قرارات فى شأنها، وبعض هذه المجامع كان عاما، يضم ممثلين للكنائس المسيحية فى كل أنحاء العالم المسكون، وهذا النوع يسمى مجامع مسكونية، والبعض الآخر من هذه المجامع كان محليًا، وبالطبع فإن قراراته ينحصر سلطانها فى نطاق هذا الاقليم.

ثم نأتى إلى الأوامر التى كانت تصدر من الرؤساء الدينيين من البطاركة، وكانت موجهة إلى الكهنة لتنظيم شئون الطائفة، وكانت تتضمن قواعد شرعية، يلتزم بها أفراد الطائفة، وهذه الأوامر تستمد قوتها الملزمة من أتباعها مدة طويلة مع الشعور بإلزامها.

أما فقه آباء الكنيسة فالمقصود به كتابات آباء الكنيسة، وهى تتضمن إلى جانب المسائل العقائدية، قواعد متعلقة بالعلاقات بين الناس، وقد استنبط آباء الكنيسة هذه القواعد بطريق الاجتهاد من المصادر المسيحية الأولى.

وهناك قوانين بن لقلق، وهو أحد بطاركة الإسكندرية، ثم يأتى بعده كتاب المجموع الصفوى، وكتاب الخلاصة القانونية، ثم المجموعة القانونية التى أصدرها المجلس الملى سنة 1938، والتى ظل يطبقها حتى ألغيت المجالس الملية سنة 1955، وبمناسبة هذا الالغاء، قام المجلس الملى بوضع مشروع لقانون الأحوال الشخصية سنة 1955 أقره المجمع المقدس، ولكن هذا المشروع لم يكتسب الصفة الملزمة، لأن قرار المجمع المقدس الذى أقره لم يكن مستوفيا لكل الشروط اللازمة للعمل به، كما قدم البابا إلى وزارة العدل مشروع قانون ولكن هذا القانون لم ير النور بعد!

وبناء على ذلك فإن لائحة 1938 والتعديل الذى أحدثه المجلس الملى عليها، ليس لها أى صفة تشريعية، لأنها لم تصدر من السلطة المختصة، وليس معنى ذلك أنها مجردة من الصفة الملزمة، إنما تعد عرفا ملزمًا وبالتالى تعد مصدرًا ثانويًا للشريعة.

ولاشك أنه بصدور دستور سنة 2014 ناصًا على أن مبادئ شرائع المصريين المسيحيين المصدر الرئيسى للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، فإن المجمع المقدس باعتباره السلطة التشريعية العليا فى الكنيسة، هو المطالب بإعداد قانون الأحوال الشخصية واقراره، وإصدار قانون للمحاكمات والعقوبات الكنسية سواء التى توقع على جماعة المؤمنين، أو على رجال الكهنوت إذا ارتكب أحد منهم فعلا فيه مساس بالكنيسة أو بتعاليمها.

 

أسرار الكنيسة

والمعروف أن الشريعة المسيحية تؤمن بأسرار الكنيسة السبعة، ويعنى السر نعمة غير منظورة، نحصل عليها بممارسة طقس ظاهر، ذى علاقة بها على يد كاهن شرعى، وهذه الأسرار فى جوهرها هبات، وممارسات مقدسة تمنح النعمة الإلهية للمتقدمين إليها، ويتم بواسطتها عمل هذه النعمة فينا.

وقد شاءت إرادة الله أن تكون أسرار الكنيسة سبعة، لتكون مناسبة لحاجات الإنسان فى هذه الحياة، وهى: سر المعمودية، وسر المسحة المقدسة، وسر الشكر، وسر التوبة، وسر مسحة المرضى، وسر الزيجة، وسر الكهنوت، فبالمعمودية يولد الإنسان ولادة ثانية من فوق بالماء والروح، وبالميرون ينال نعمة حلول الروح القدس، وبالشركة يقتات بالاتحاد بالمسيح، وبالتوبة يشفى من أمراض الخطية، وينال الحل من خطاياه، وبمسحة المرض ينال الشفاء من أمراضه، وبالزيجة ينال نعمة الاقتران، وبالكهنوت ينال موهبة الاستحقاق.

وسر التوبة هو سر مقدس، به يرجع الخاطئ إلى الله، ويتصالح معه، باعترافه بخطاياه أمام كاهن الله ليحصل على حل منه بالسلطان المعطى له من الرب، وبه ينال غفران خطاياه.

وقد وعد السيد المسيح بهذا السر مرتين: الأولى: عندما اعترف به بطرس، قائلا: أنت هو المسيح ابن الله الحى، فقال له السيد المسيح: وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا فى السموات. وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا فى السموات.

والثانية: عندما أعطى السيد المسيح الكنيسة سلطان الحل والربط، بقوله لتلاميذه، وإن لم يسمع منهم، فقل للكنيسة، وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثنى والعشار، الحق الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا فى السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا فى السماء.

وبناء على هذا الوعد أرسى الرب هذا السر بعد قيامته، عندما ظهر لتلاميذه، وقال لهم: سلام لكم كما أرسلنى الأب أرسلكم أنا، ولما قال هذا نفنح، وقال لهم: اقبلوا الروح القدس، من غفرتهم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت.

وبناء على ذلك أن السيد المسيح منح تلاميذه، وخلفاءهم سلطانا أن يحلوا الخطايا، ويربطوها، وأن يتركوها، ويمسكوها بقوة روح الله، وأن يعلنوا غفران الخطايا للبشر.

وقد نشأت الكنيسة منذ العهد الرسولى، وهى تستعمل هذا السر، وقد حفظه، وعلم به جميع آباء الكنيسة بكل تدقيق، فقد ورد فى قوانين الرسل هكذا أن كل أسقف أو قسيس لا يقبل من يرجع عن خطيته بل يطرده لأنه يحزن المسيح القائل يصير فى السماء فرح بخاطئ يتوب.

وورد أيضاً فى أوامر الرسل تذكير لمتقدمى الكنيسة بأنهم اؤتمنوا على سلطان الحل والربط، وقد استعمل بولس الرسول هذا السلطان مع المختلط بالدم فى «كورنثوس» حيث حرمه، وفرزه من الكنيسة، ولما أثمر فيه العلاج، عاد وحله من قصاصيه، وأعاده إلى الكنيسة.

وقد اعترف جميع آباء الكنيسة صراحة بهذا التحكيم، فيقول القديس باسيليوس الكبير أن الاعتراف بالخطايا للمؤتمنين على تدبير أسرار الله ضرورى، لأن الذين كانوا يندمون قديما، نرى أنهم هكذا صنعوا نحو القديسين وقد كتب فى الانجيل أنهم كانوا يعترفون بخطاياهم ليوحنا المعمدان، وفى أعمال الرسل أنهم كانوا يعترفون للرسل الذين كانوا يعمدون منهم.

وللتوبة أربعة شروط: أولها انسحاق القلب وندامته

على الخطايا التى اقترفها، وثانيها عزم المعترف على إصلاح سيرته، وثالثها: إيمان المعترف بالسيد المسيح ورجاؤه فى تحننه، ورابعها: اعتراف شفوى بالخطايا أمام الأب الروحى، وهذا نتيجة طبيعية تقتضيها وظيفة الكاهن، المعطى له من السيد المسيح سلطان حل الخطايا وربطها فى هذا السر، لأن السيد المسيح قال: اقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت.

فكيف يمكن الكهنة أن يغفروا الخطايا أو يمسكوها دون أن يعلموها، وكيف يعرفونها بدون الاعتراف بها أمامهم، وكيف يتأتى للقاضى أن يفصل فى نزاع لم يطرح عليه؟، فالسلطان الروحى المعطى من السيد المسيح لتلاميذه ولخلفائهم يقتضى اعتراف التائب، واظهار خطيته لينال الصفح عنها، وبناء على ذلك يعتبر الاعتراف بالخطايا لرعاة الكنيسة مؤسسا من السيد المسيح، كما أن سلطان الحل والربط ممنوح منه له المجد، فمن ينكر الاعتراف ينكر سلطان الحل والربط، وذلك أمر مخالف لتعاليم الانجيل.

ويترتب على التوبة مسامحة الخاطئ، ونيله غفران خطاياه، ومحوها، ونيله الخلاص، والحصول على رجاء الحياة الأبدية، والانعتاق من عقاب الخطية، والمصالحة مع الله، والحصول على رتبة البنوة التى فقدها الخاطئ بخطيته.

 

العقوبات الكنيسة

وقد اعتادت الكنيسة أن تفرض على التائب بعض العقوبات، القصد منها تأديب الخاطئ، وإصلاح حاله، وتقويم سيرته، وفقا لما قاله الرسول: لأن الذى يحبه الرب يؤدبه، إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين، فأى ابن لا يؤدبه أبوه، وقوله: ولكن إذا حكم علينا أن نؤدب من الرب لكى لا ندان مع العالم، وأشهر العقوبات هى الصوم علاوة على الأصوام المفروضة على جميع المؤمنين، وصلوات يقدمها الخاطئ فى مخدعه مع عدد من الركعات، وتوزيع جزء من ماله صدقة على الفقراء، وتأخير التناول من الأسرار المقدسة وقتا مناسبا لثقل الخطية.

وهذه العقوبات هى فى حقيقتها عقاقير روحية تعالج بها أمراض النفس للتهذيب، والتقويم، والعقوبة داخل نطاق الكنيسة، تختلف عن العقوبة التى توقعها المحاكم الجنائية والتأديبية، فالمصلحة المقصودة بالحماية هى مصلحة الإنسان الخاطئ نفسه، وهى تنصرف إلى خلاص نفسه وانتقاله إلى حالة الاستحقاق للدخول إلى حياة أبدية، حين أن مصلحة المحاماة فى الجريمة الجنائية أو التأديبية هى مصلحة المجتمع نفسه.

والعقوبة الكنسية متصلة بانضباط العمل الروحى، والدعوى داخل الكنيسة، وهى عرضة لترفع فى أى لحظة بواسطة واضعها مستعملا سلطة الحل والربط، إذا ما ثبت أن الهدف التهذيبى من العقوبة قد تحقق، فالعقوبة الكنسية هى عملية تنقية وإعادة بناء الصرح الروحى والإيمانى للإنسان.

والأصل أن الأسقف الذى يصدر تحريمًا لا يستطيع أسقف آخر أن يحله، فالشخص الذى وقعت عليه العقوبة من حقه أن يرجع إلى أسقفه ويحله أو يقدم التماسا إلى مجمع الأساقفة معلناً توبته، واعتذاره فيقبله.

والعقوبات الكنسية متعددة تبدأ بعقوبة الانذار، ثم عقوبة التوبيخ، أو عقوبة الحرمان من الخدمات الكنسية والعقائدية، بمعنى أن المخطئ قد وصل به الخطأ المرتكب إلى حالة تجعله بعيدا عن حالة الاستحقاق للتمتع بوسائط النعمة التى تقدمها الكنيسة للمؤمنين، وهو حكم كاشف لحالة المخطئ.

وهذه العقوبة ليست مقصورة على الأخطاء المعروفة كالكذب، والسرقة، والتعدى، والزنا، ولكن الكنيسة توقعها فى حالة الخطايا التى يرتكبها الإنسان إذا ما ارتكب فعلا يكشف عن خطايا فى السلوك، وسوء تعامل بعيد عن روح الإيمان.

وهذه العقوبة التى يوقعها الأسقف على الخاطئ، تعتبر كقرار الطبيب بالنسبة إلى المريض، الذى لا يرى من صالحه وهو فى حالة المرض أن يتناول أطعمة بعينها، أو تتجاوز تصرفاته حدا معينا، ثم هناك عقوبة القطع، وهى توقع على رجال الكهنوت، وهذه العقوبة لا تمس خلاص المحكوم ضده، ولا تقطع صلته بالسيد المسيح أما عقوبة الافراز، فإنها تعنى استبعاد المحكوم ضده من شركة المسيح، وهذه العقوبة لا توقع إلا إذا أنكر الشخص ألوهية السيد المسيح.

وهكذا يبين لنا أن السلطات الممنوحة لرجال الدين المسيحى، تتمثل فى السلطان الكهنوتى المستمد من الرب، الذى يقوم عليه النظام الكنسى، بما يفرضه لرجال الدين من حقوق وامتيازات، وما يوجبه على المؤمنين بهذا النظام من ولاء وخضوع، وأبرز هذه السلطات كما أقرتها محكمة النقض بحكمها الصادر بجلسة 28/6/1978 فى الطعن رقم 3 لسنة 47ق، وبجلسة 31/3/1971 فى الطعن رقم 46 لسنة 45ق، هى سلطة منح الأسرار المقدسة، بالتالى فإنه يتعين التفرقة بين نوعين من القرارات.

الأول: القرارات التى تصدرها البطريركية بصفتها شخصا من أشخاص القانون العام فهى قرارات إدارية مثل كافة القرارات التى يصدرها أشخاص القانون العام، والثانية القرارات التى يصدرها رجال الكهنوت والتى تتمثل فى السلطان الكهنوتى المستمد من الرب، الذى يقوم عليه النظام الكنسى.

وإذا كان الأصل أن كل قرار إدارى يمكن طلب إلغائه، فإن صح وصف القرار الذى يصدره البابا باعتباره الممثل القانونى لكاتدرائية الأقباط الأرثوذكس، وهى أحد أشخاص القانون العام بأنه قرار بالمعنى المعروف فقهاً وقضاً وهو خاضع لرقابة المشروعية، فإن القرار الذى يصدره رجال الكهنوت استنادا إلى السلطان الكهنوتى الذى استمدوه من الرب مباشرة فإنه لا يعد قرارا إداريا لا يقبل الطعن عليه أمام القضاء.

وآية ذلك الأمور الآتية:

أولاً: أن الاعتراف سر مقدس، ولا يملك كاهن الله الذى اعترف أمامه الشخص المخطئ بارتكابه خطيئة ما، أن يبوح بهذا السر، ولا أن يعلن لأى سلطة قضائية مهما علا شأنها عن مضمون هذا الاعتراف، فإذا كان القضاء يملك مراقبة مشروعية الجزاء الذى توقعه السلطات الإدارية على الموظف المخطئ، وما إذا كانت العقوبة الموقعة مناسبة للذنب المرتكب من عدمه، وعما إذا كان الفعل المرتكب ثابتا فى حقه بيقين من عدمه وذلك لا يكون إلا بعد مطالعته للتحقيقات وما أدلى به شهود الإثبات فإن القضاء لا يملك مراقبة مشروعية العقوبة التى يوقعها رجل الدين لأنه لا يوجد تحقيق مكتوب ولأن الكاهن الذى وقع العقوبة، لا يملك شرعا أن يفصح عن مضمون الخطية المرتكبة، ولا الإعلان عما اعترف به المخطئ أمامه وبالتالى فإن رقابة القضاء على مشروعية العقوبة تكون مستحيلة.

ثانيا: إذا كان القضاء الإدارى لا يملك مراقبة مشروعية القرارات التى تصدرها الدولة إذا كانت متعلقة بأعمال السيادة، فإنه من باب أولى لا يملك مراقبة مشروعية العقوبة التى يوقعها رجال الدين، لأنهم لم يوقعوها استنادا إلى قانون أو لائحة إنما وقعوها استنادا إلى السلطان الكهنوتى الذى استمدوه من الرب مباشرة، وبالتالى لا تملك أى سلطة أرضية التدخل فى هذا السلطان الإلهى ولا أن تفرض رقابتها عليه.

ولا شك أن خير علاج هو أن يتدخل المشرع ليعدل أحكام قانون السلطة القضائية وقانون مجلس الدولة وأن ينص فيهما صراحة على عدم اختصاص القضاء بطلب إلغاء القرارات الدينية التى يصدرها رجال الدين المسيحى استنادا إلى السلطان الكهنوتى الذى استمدوه من الرب مباشرة، وقتها من حقنا أن نفخر بأن المادة الثالثة من الدستور ليست حبرا على ورق إنما هى حقيقة ملموسة.