رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

كلمات حق فى ينبوع العلم والزهد والاستقامة فى رحيل المستشار الدكتور محمد مسعود رئيس مجلس الدولة السابق

بوابة الوفد الإلكترونية

غيّب الموت أستاذنا المرحوم المستشار الدكتور محمد عبدالحميد مسعود رئيس مجلس الدولة السابق, وكان السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى  قد أصدر قرارًا جمهوريا برقم (268) لسنة 2016 بتعيين المستشار الدكتور محمد عبدالحميد مسعود رئيسًا لمجلس الدولة، والمرحوم من مواليد 19 يوليه 1947 مركز ناصر بمحافظة بنى سويف, وتخرج فى كلية الحقوق جامعة القاهرة دفعة 1969 بتقدير عام جيد جدًا مع مرتبة الشرف والتحق بمجلس الدولة فى  14 مارس 1970 وحصل على دبلوم القانون العام عام 1971 ودبلوم العلوم الإدارية عام 1972، كما حصل على درجة الدكتوراه فى  القانون الدستورى عـام 2006, وكان فقهياً من فقهاء مجلس الدولة , وله مؤلفات قانونية فى القانون الإدارى والتأديب وإشكاليات خصومة التحكيم التجارى  الدولي.

ليس من عاداتى أن امتدح أو أهجو، لكنها شهادة فى حق قاضى القضاة، اعترافاً منى بثقافة وفكر وشهامة ونبل واستقامة هذا القاضى الجليل، فقد ظل على مبادئه التى  يؤمن بها، وعُرف عنه دقته وصرامته وشجاعته فى  إبداء الرأى، وهو ما أكسبه احترام كل من عرفه وحتى مُبغضوه قد مسهم رحيق الحب له والإجلال لشخصه الكريم, فقد عملت مع رئيس مجلس الدولة السابق عضواً بالمحكمة الإدارية العليا الدائرة الأولى مع كوكبة من الزملاء العلماء, وقد تولى المستشار الدكتور محمد مسعود مسئولية صرح مجلس الدولة فى وقت عصيب وأحداث جسام لم يألفها المجلس, تصرف فيها بحكمة السنين, وقد أفصح لى عن أشياء عظيمة بتلك الأحداث الجسام تتعلق بحرصه الشديد على كيان مجلس الدولة بذات حرصه على الاستقامة ومقاومة أى فساد مهما قويت مخالبه, فكم كان محباً للدولة المصرية ضد التيارات المارقة عن الوطنية التى كانت تريد اسقاطها, وكثيراً مما أخبرنى به سيظل سراً لا تداويه الأيام إلا لمن يستحق من أهل الثقات, إننا لا نرثى اليوم قاضياً عادياً أو رئيساً عابراً أو حتى أحد رموز مجلس الدولة, بل نقف أمام تجربة فريدة أعادت رسم وتشكيل القيم والتقاليد القضائية العريقة والتجرد والموضوعية والزهد فى  المناصب والمال.

إن الشخصية الوطنية الفذة للمستشار الدكتور محمد مسعود رئيس مجلس الدولة السابق تستحق الإشادة والشكر لما قدمه للوطن والعدالة, لقد كان لى عظيم الحظ أن أعمل معه فرأيت رجلاً يُقدس العمل القضائى, ويضع فى  تقديره أعمالا يجب الانتهاء منها فى  حينها، وحينما تتراكم الأعمال فنهاره يأخذ من ليله، وأُسرته تتنازل عن حقها تقديراً لطموحه وإخلاصه, هو شخصية فذة واعية مفعمة بالإنسانية والنبل ويملك فكراً عالياً، نحن أمام رئيس للقضاة من الطراز المتميز, لقد كان حريصاً على أن يحيط به كوكبة من رجال الفكر من تلاميذه فى شتى المناهج المختلفة والمدارس المتباينة فزادهم حباً وشغفاً, كما يبدو فى  الصور التى احتفظ بها فى سجل التاريخ , وقد ظل قاضياً نزيهاً يعامل الناس كلها سواسية, عفيفاً شريفاً , لا توجد فى قلبه العنصرية والحقد الطبقى, كان يؤمن بقيمة الموهبة والابداع, فكيف أضعك مع الرؤساء على كفة الميزان سواء! وكثيراً ما كتبت لى ولزملائى عبارات إشادة تنم عن تقديرك لرجال الفكر والفقه, كنت معلماً متواضعاً, إنك وعلى كل شاكلتك وسجيَّتك وطباعك ممن يتمتع بصفاتك النزيهة فى  مجلسنا العظيم, تعيد إلينا الأمل فى وجوه تخدم مصالح الوطن وتساهم فى نهضة المجتمع, فأمثال هؤلاء هم الرجال الذين تنهض بهم الأمم, وحقاً من لا يشكر الناس لا يشكر الله.

وحينما سمعت نبأ انتقالك إلى رحمة مولاك, تذكرت كل القيم الجميلة فيك, تذكرت الفطرة السليمة الكامنة فى روحك الطاهرة, والبساطة التى تكسو ضحكتك الأثيرة دون تكبر أو غرور, فأدمعت عينى, فليس هناك أشد قسوةً وألماً على الشخص أكثر مِن أن يسمع نبأ وفاةِ رجل عظيم مثلك يعرف معنى انتقاء الرجال فكان أقربُ لمرؤوسيه من حبل الوريد, ورغم أن الموت حقٌ على كُلِ إنسان، إلا أنّهُ يظل الأقسى على النفس، ولا يبقى لنا أستاذنا سوى تذكُر الذكريات التى  كانت تجمعنا بك, والدعاء لك فى قبرك الذى هو رياض من رياض الجنة إن شاء الله.

نودعك أستاذنا الفاضل وقاضينا الجليل, فتنحنى قامتنا وكبرياؤنا احتراماً وتقديراً لمقامك الرفيع, كنت مخلصاً فى  عملك وعطائك, عظيم الهمة نظيف القلب واليد واللسان, كنت واحداً من جيل الرواد من عناقيد الزمن الجميل المؤمنين برسالة العدالة العظيمة، الناكرين للذات، حقاً كنت من ذلك الزمن الجميل البعيد الذى نشتاق إليه, فقد فارقت الدنيا، بعد مسيرة عطاء عظيمة ومشوار حياة تاركاً سيرة عطرة، وذكرى طيبة، وروحاً نقية، وميراثاً من القيم والمثل النبيلة, إن الحقُّ نـادَى فاسْـتجَبْتَ, ولـم تَـزل بالحقِّ تحفِلُ عندَ كلِّ نداء خلَّفْت فــى الدنيا بياناً خالداً, وتركْت أَجيالاً مــن الأبناءِ القضاة, وغـداً سـيذكرك الزمانُ, ولـم يَزلْ للدِّهـر إِنصافٌ وحسنُ جـزاء, فمن أين أبدأ فيك رحلة حديثى وكلامى، وأنت نهر الكلام الطيب, أيّها الأصيل المعلّم، الذى قضى حياته من التّواضع إلى التّواضع, وما زلت أتذكر أنك أصررت على جلوسك مستمعاَ لى وأنت الأستاذ المعلم حينما كلفتنى بإلقاء محاضرة عن حق الانتخاب لقضاة البحرين, فكم هى قاسية لحظات الوداع والفراق، التى تسجل وتختزن فى القلب والذاكرة, وكم نشعر بالحزن وفداحة الخسارة والفجيعة، ونختنق بالدموع حينما نودعك.

إن العطاء فى الحياة سر من أسرار الخلود، لا يدرك هذا السر كثير من البشر, لكنك عرفت هذا السر, وعرفت كيف تجعله نهجا ونمطا لحياتك، ولن يمحو الزمان ذكر من أعطى كل

هذا العطاء يا نبع العطاء والنهر المتدفق حباً لعملك، يعز علينا فراقك، فى وقت نحتاج فيه إلى أمثالك من الرجال الأوفياء الصادقين المحبين لأوطانهم دون مقابل, ومهما كتبت من كلمات رثاء، وسطرت من حروف حزينة باكية، لن نوفيك حقك لما قدمته من علم ووقت وجهد وتفانٍ وإتقانٍ فى  سبيل إعداد قضاة ورجال المستقبل والغد, فقد علمتنا الأخلاق والقيم الفاضلة، وغرست فينا حب العلم والمعرفة، ونميت فى  أعماقنا قيم المحبة والخير والانتماء للوطن حتى غدا الوطن فى  أعلى مستوياته يقدر فكرنا وجهدنا ووطنيتنا تقديساً لترابه, عرفناك قاضياً هادئاً، متسامحاً، راضياً، قنوعاً، ملتزماً بإنسانيتك وملتزماً بدينك, ولمسنا فيك أستاذنا الفاضل خصالا ومزايا حميدة، جلّها الإيمان ودماثة الخلق وحسن المعشر وطيبة القلب، والتواضع الذى  زادك احتراماً وتقديراً ومحبة فى  قلوبنا, وقلوب كل من عرفك والتقى بك, وهل هناك ثروة يبقيها الإنسان بعد موته أكثر من محبة الناس؟ فكنت قدوة ونموذجاً ومثلاً يحتذى فى البساطة وسمو الأخلاق وطهارة النفس والروح, ونقاء القلب والتسامح, وأعطيت كل ما لديك بلا حدود، دون كلل أو ملل، إن مهنتك ورسالتك هى من أصعب المهن وأهم الرسالات، رسالة الحق والعدل، التى فى  صلبها بناء الإنسان، وبناء الأوطان.

 غاب عنا شمس الصبح, لكن لم تغب حكمته، لبى نداء الرحيل، لكن لم تتوقف حكمته, امتلأت القلوب به محبة وصاغ بفكره ملحمة براعته, بحروف من نور القانون الإدارى سطر مجداً بروحه ودمه وعرقه وسهره وفطنته, قاد مجلس الدولة وسط أنواء بقدراته وخبراته وكفاءته ونزاهته, فى رحاب فكره نصبح التلاميذ لأنه المعلم لا يعرف إلا كلمة الحق بصدقه وصراحته, أنت مسعود بعمق رؤيتك ونحن أسعد بعظيم عطائك ورفعة ثقافتك, إذا بكينا الاسم يبقى لنا الخلود وسيظل رمزا غاليا بعظيم عطائك وقيمتك وقامتك, يا صاحب المقام الرفيع  يا رمز الجلال على المنصة وكلماتك وأفكارك وسعة صدرك جعل بموقعك جلالك وهيبتك, فمهما غبت عنا فإن غيابك لم يحرمنا أن نردد منهجك وعظيم أفكارك, يا مصدر القوة الفكرية والكبرياء المهنى, يا ملهم المعانى الريادية يا صابر يا واثق يا راسخ يا رمز الضمير الذى تتسلح به فى  اَيتك, يا أيها الأجلاء تعلموا من دروسه وانهلوا من عظيم ميراثه وخلود تراثه وجددوا فكره ليكون شعارنا هو القدوة والينبوع ورمز الزهد والتواضع والعلم وعظيم أمجادك.

لقد غيبك الموت جسداً أستاذنا ومعلمنا الحبيب الغالى, لكنك ستبقى فى قلوبنا ما بقينا على قيد هذه الحياة, ولن ننساك، وستظل بأعمالك ومآثرك وسيرتك نبراساً وقدوة لنا فى الزهد والاستقامة, فنم مرتاح البال والضمير، فقد أديت الأمانة, وقمت بدورك على وجه يرضى الله ورسوله الكريم, والرجال الصادقون أمثالك لا تموت ذكراهم, فقد كنت عظيماً فى  حياتك وأنت اليوم عظيم بعد مماتك! ونم قرير العين لأنك خالد فيما عملت وقدمت وضحيت, فحينما يكون الرحيل.. يذهب كل شيء يتعلق بالإنسان ويبقى عمله وسيرته والأثر الذى  تركه فى  قلوب الناس والمحيطين به خاصة إذا كانوا من أولى العزيمة والهمة يحفظون لك ويكتبون عنك, فتوحدت مشاعر جميع قضاة مجلس الدولة تترحم عليك, وعندما أكتب عن صاحب قلب اتسع للجميع وامتلك من الأخلاق منظومة متكاملة من القيم القضائية الأصيلة, انعكست على سيرة حياته المهنية المليئة بالأحداث والمواقف والأعمال القيمة، يقف القلم عاجزاً عن سرد مشاعر وأحاسيس يصعب أن يكون مدادها على صورة تواريخ أو أحداث, لكنها دروس وعبر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

تغمدك الله أستاذنا الجليل بوسيع رحمته، وأسكنك فسيح جناته ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.