رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

المستشار لبيب حليم لبيب يكتب: حكاية أخطر قضية

بوابة الوفد الإلكترونية

صحوة مصر مع سعد زغلول أصابت الإنجليز بالذعر

الاحتلال الإنجليزى استخدم ملف الأقليات لتفريق المصريين

صوت مصطفى كامل.. بداية شرارة الجلاء والدستور

صحيفة «اللواء» كانت منارة للتثقيف ومقاومة الاستعمار

 

حيث بدأ شريف باشا فى وضع دعائم الإصلاح، يبرق الباب العالى إلى مصر بأنه تقرر إيفاد بعثة شاهانية لتحقيق حادث تمرد الجيش ووضع تقرير عن حالة البلاد، وساد الرأى العام موجة من الدهشة، وتدخلت فرنسا وإنجلترا لدى السلطان كى لا يرسل هذا الوفد، ولكنه كان قد أرسله فعلاً، فقد توسلتا فى أن يأمر بتقصير أمد إقامته حتى لا يعم الاستياء وتتطور معه الحوادث تطوراً قد يضر بحالة الهدوء التى كانت قد شملت البلاد.

وصدرت الأوامر إلى عرابى كى يسافر برفقته إلى رأس الوادى إقراراً منه بالطاعة وتماشياً لما قد يحدث حال وجوده عند حضور الوفد، وأطاع عرابى الأمر، ولكنه علق طاعته على شرط واحد، هو أن يصدر الخديو أمراً بإجراء الانتخابات قبل سفره، فأصدر الخديو أمره بإجراء الانتخابات حسب لائحة 1866، فساد التذمر، وظهرت بوادر الاستياء، ولكن عرابى والجيش من ورائه كرهوا إثارة القلاقل، وسافر هو وفرقته إلى رأس الوادى، وخرج الشعب بأسره يودعه، وقبل أن يتحرك القطار ألقى فى الجموع الحاشدة خطبة قال فيها:

سادتى وإخوانى: بكم ولكم قمنا وطلبنا حرية البلاد، وقطعن غرس الاستبداد، ولا ننثنى عن عزمنا حتى تحيا البلاد وأهلها، وما قصدنا إفساداً ولا تدميراً ولكن لما رأينا أننا بتنا فى إذلال واستعباد ولا يتمتع فى بلادنا إلا الغرباء حركتنا الغيرة الوطنية والحمية العربية إلى حفظ البلاد وتحريرها ولمطالبة بحقوق الأمة».

وأضاف عرابى:

«لقد ساعدتنا العناية الإلهية ومنحنا مولانا وأميرنا الخديو ما طلبناه من سقوط وزارة المستبد علينا، السائر بنا فى غير طريق الوطنية وتمتعنا بمجلس الشورى لتنظر الأمة فى شئونها، وتعرف حقوقها كباقى الأمم، وما أوصلنا إلى هذه الدرجة إلا الاتحاد والتضافر على حفظ شرف البلاد.. فالآن ننادى بصوت واحد فليعش الخديو واهب الحرية، فليعش الجيش المصرى طالب الحرية، فلتعش الحرية فى مصر خالدة مؤبدة».

 

الاحتلال!

وسافر عرابى، ووصل الوفد التركى وعاد ليقول للسلطان أن الحال على أحسن ما يكون، وأنه لا تمرد ولا ثورات فى الجيش، وتمت الانتخابات، وافتتح المجلس أولى جلساته فى 23 ديسمبر سنة 1991 برئاسة سلطان باشا وأخذ فى ترتيب نظامه.

وأتم شريف باشا وضع الدستور وقدمه للمجلس، وكان أضعف ما فيه حرمان النواب من مناقشة الميزانية وإقرارها وترك أمرها للمراقبين الأجنبيين اللذين ارتضتهما الدولة، وكانا بمثابة عيونها وآذانها فى مصر، وطال الجدل بين الوزارة ومجلس النواب، وانضمت إنجلترا وفرنسا إلى غير الجانب الشعبى، ثم ما لبثت حكومة فرنسا أن بعثت بمذكرة وافقت عليها إنجلترا أبلغت فيها الخديو برغبة الحكومتين فى مساعدته وتعضيد حكومته للتغلب على المصاعب التى تسببت عنها حال القلق الذى يسود مصر والذى سببها مجلس شورى النواب!

وثار الرأى العام على المذكرة واعتبرها تدخلاً فى أقدس حقوقه، واحتجت تركيا لأن فرنسا وإنجلترا أقحمتا نفسيهما فى أمر من صميم اختصاصها، وتقدمت روسيا وألمانيا والنمسا مذكرة إلى الباب العالى بالاحتجاج على تدخل الدولتين وسياستهما الغامض إزاء مصر.

وأرسل شريف باشا احتجاجاً إلى الدولتين وطلب تفسيراً يؤكد حسن نيتهما، ووافقت إنجلترا ورفضت فرنسا، معتبرة أن فى صدور التفسير ما يحرج مركز الدولتين، وتحرج الأمر، واستقال شريف باشا وأسندت الوزارة إلى محمود سامى البارودى، وسارت الأمور فى طريق الإصلاح طوراً.. وأطواراً فى طريق وعر، ثم جاءت مذكرة جديدة من الدولتين تطلبان فيها إسقاط وزارة البارودى، وإبعاد عرابى خارج القطر وإبعاد على فهمى وعبدالعال حلمى إلى الأرياف!!

واستقال البارودى، ورفض عرابى وعلى فهمى وعبدالعال حلمى طاعة الأمر، وثار الرأى العام ووقف وراء الجيش يظاهره ويحميه، وزاد الموقف تحرجاً حين أرسلت إنجلترا وفرنسا أسطولاً إلى الإسكندرية أخذ يضرب الإسكندرية وأخذت بوارج الأسطول ترسل عليها حممها صباح يوم 11 يوليو سنة 1992، وتتابعت الحوادث، ثم أسفرت عن وجهها النقاب حين دخل القاهرة فى 15 سبتمبر سنة 1882 ثم كان الاحتلال.

 

السودان

ويحكى لنا التاريخ أن الاستعمار البريطانى تزيا بلباس الحارس الأمين وراح ينتحل الأسباب والتعللات بأنه ما جاء إلا للخير، وما أراد إلا الإصلاح، وأنه متى رجع كل شىء إلى أصله واستقر الحال فى البلاد تركها إلى أهلها ومضى إلى حال سبيله.

ولم يؤمن الشعب بهذه الأكذوبة وراح أبناؤه يتحفزون به ويطالبونه بالجلاء، وحكمت البلاد قوة دخيلة أرادت بتدخلها أن تسلب صاحب الحق الشرعى حقه، وجعلت الخديو رمزاً للحكم، والعميد البريطانى هو الحاكم الفعلى الذى يدير ذمة الحكم عن طريق مرؤوسيه.

وتمادى العميد فى بطشه وطغيانه، وأقدمت حكومته على أن تطلب من حكومة الخديو إصدار أمرها إلى قواتها فى الجنوب بإخلاء السودان!

واستقال شريف باشا لمحاولة سلخ الجنوب من الشمال، وجاء بعده نوبار الذى سلم للغاصبين بما أرادوا وانطوت مع مسير الحوادث صفحة توفيق..وجاء عباس إلى كرسى الحكم، ولم يكد يباشر سلطانه حتى ذعر المستعمر ووجد فى عباس مصرياً يفخر بمصريته، وحاكماً يعرف حقوقه وواجباته وسلطانه.

 

وبدأ الصراع بين أصحاب الحق والمستعمر، بدأ بمذكرات شديدة اللهجة، وتدخل حاسم سريع ومحاولات لتصفية الموقف بين الخديو والعميد البريطانى، وقد وجدت إنجلترا هذه السهولة فى الحلول فأرادت أن تسير بسفينة سياستها إلى ما هو أبعد مدى من التدخل فى سلطان الحاكم وفصل النصفين الشقيقين لأنها كانت تعرف أن الخديو كان يعلم أن الجيش البريطانى مرابض، وأن الأسطول البريطانى متحضر وأنهما يعملان على إعلاء سلطان المستعمر وإسكات صوت الحق:

ويبدو أن إنجلترا نست قوة الشعب المصرى، وظنت أن انتصارها الوقتى على الخديو فيه إجبار للشعب بالرضا والخضوع، كما نست أو تناست أن الشعب الذى حارب الأجيال وهزم الزمن، وحافظ على وحدته، وما فرط فى حق من حقوقه، ونفى زعماؤه وتشتت جيشه فقد أصبح يحيا حياة ذلة وقناعة ورضا، ولكن الأحداث نفسها خيبت آمال الإنجليز، الذين تلفتوا مذعورين على صوت مصطفى كامل الذى نادى بالجلاء وبالدستور.

ووجدت دعوة مصطفى كامل صداها فى فرنسا التى ظاهرته وشجعته رغبة منها فى إخراج إنجلترا، وشادت صحفها بشجاعته وباركت دعوته، ثم ما لبثت أن حدث فى العلاقات بين الدولتين تغير غريب صدر على أثره اتفاق عام 1904 وبمقتضاه اعترفت فرنسا بمركز إنجلترا فى مصر مقابل ترك إنجلترا لها لتتصرف حرة دون قيد أو شرط فى مراكش.

ووجد مصطفى كامل نفسه بعد هذه الاتفاقية مضطراً إلى أن يعمل وحده، بعد أن آمن بأن ما تدعيه فرنسا وتنادى به من أنها حامية وناشرة لواء الحرية والإخاء والمساواة، إنما هو أمور تخصها وحدها وتنادى به لنفسها وتحرم الغير منه.

ووجه مصطفى كامل همه إلى الشعب، ووجد أن سياسة إنهاضه وتثقيفه وإعلاء مداركه هى أقوم سلاح يحارب به الاستعمار ويقضى عليه، ففتح المدارس، وألقى الخطب، وأصدر صحيفة اللواء التى كانت منارة للرأى العام.

 

الأقباط

وإذا تتبعنا السياسة البريطانية فى مصر منذ الاحتلال بالنسبة للأقباط، ومدى ارتباط هذه السياسة بالخطة البريطانية العامة فى دوام السيطرة على مصر نلاحظ عدة أمور.

أولها ما سجله ليدر فى كتابه الأبناء المحدثون للفراعنة الذى ذكر فيه أنه قبل الاحتلال البريطانى لم تكن مناصب الحكومة المصرية، ولا المناصب الكبيرة فيها- موصودة الأبواب فى وجه القبط، وأن القبط يرون أنه عندما أمسك الإنجليز بالسلطة فى مصر اختفى أكثر الرؤساء القبط من الإدارات، وقل عددهم بالتدرج فى مناصب القضاء، وكان عليه إقصاؤهم وغلق أبواب التعيينات الجديدة أمامهم فى الوظائف الكبيرة.

ثانيها: أن السياسة البريطانية تجاه الأقليات فى مصر كانت ترتبط بمسألة الامتيازات الأجنبية وموقف الإنجليز منها، والحاصل كما يقول طارق البشرى فى كتابه «المسلمون والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية» أنه عندما احتل الإنجليز مصر كانوا يسعون للسيطرة الكاملة عليها، ولكن وجود الامتيازات الأجنبية شكل عقبة قوية فى وجه السيطرة الكاملة على مصر، فقد وقفت الامتيازات الأجنبية حجر عثرة فى وجه أى تنظيم أراد الإنجليز وضعه فى نظم الضرائب أو الإدارة أو القضاء.

ثالثها: أن بريطانيا كانت تبرر وجودها الدائم بمصر بحماية الأقليات فيها، سواء تمثلت هذه الأقليات فى القبط أو الأجانب القاطنين فى مصر، وكانت تحرص على الاستناد إلى هذا المبرر أمام الرأى العام الدولى لصياغة وضع مصر على أساسه.

والحقيقة أن مصر لم تكن تعرف فروقاً قومية ولا لغوية بين أهلها، فلم يكن أمام بريطانيا إلا الفروق الدينية تحاول الارتكاز عليها، والتحيز الدينى من شأنه أن استخدام هذا الأمر يوفر للسياسة البريطانية حجة قوية تصم المصريين بالتخلف الحضارى، بهذا عمل الإنجليز على النظر إلى الأجانب من قاطنى مصر بوصف أنهم مسيحيون، وأن الغالبية من أهل مصر المسلمين تتصف بالتعصب الدينى ضدهم.

وإذا كان المسلك المصرى لغالبية القبط إزاء المسلمين لم يوات بريطانيا بما يؤيد حجتها منذ بداية الاحتلال، فقد عملت على استخلاص حجة التعصب الإسلامى ضد مسيحيى أوروبا فى مصر، على أن تنتهز مستقبلاً فرص التفرقة بين القبط والمسلمين.

وتحكى كتب التاريخ أنه فى أوج اشتعال الثورة العرابية، وقعت مذبحة الإسكندرية فى يونيه سنة 1882 قبل احتلال الإنجليز مصر بأسابيع معدودة، وبدأت المذبحة بشجار بين أحد المالطيين من رعايا الإنجليز وبين أحد الأهالى حول أجرة ركوب حمار، وأسفرت عن قتل 75 من الأوروبيين و163 من المصريين واستغل الإنجليز الحادث فى حملة مركزة على التعصب المصرى ضد الأجانب وضد المسيحيين!

وقدر لهذا الحادث أن يصبح التمهيد للتدخل البريطانى المسلح فى مصر واحتلالها وبقيت ذكرى الحادث سلاحاً يرفعه الإنجليز فى وجه المفاوض المصرى إذا طالبهم بالجلاء، مدللين به على ما يمكن أن يحيق

بالأجانب من أخطار إذا ترك أو حمايتهم للحكومة المصرية.

وكان هذا عين ما أكده كيرزون وزير الخارجية البريطانى فى مفاوضته مع عدلى يكن سنة 1921 عندما ذكره بحوادث 1882 وحادثة دنشواى.

ولم تكتف تقارير كرومر والدعاية الإنجليزية عن اتهام المصريين بتهمة التعصب الدينى وكراهية الأجانب واستغلت فى ذلك أيضاً حادث دنشواى!!

 

دنشواى

وكانت مجموعة من جنود الإنجليز بقيادة الميجور كوفين يتجولون بالقرب من قرية دنشواى صبيحة يوم الأربعاء 13 يونية سنة 1906، وكان الميجور كوفين مغرماً بصيد الحمام فأقنع رجاله بأن يتراهنوا لاصطياد الحمام من على أشجار القرية، وحين أطلقوا الأعيرة لاصطياد الحمام تشاء الأقدار أن يتوغل واحد منهم داخل القرية وصوب بندقيته إلى جرن الحمام الخاص بالشيخ محمد عبدالنبى مؤذن القرية، فتفقد زوجة الشيخ وعيها بعد أن أصابها عيار طائش، واشتعلت النيران فى جرن القرية فى أكوام القمح دون سبب وتجمع الأهالى وحاولوا نزع بندقية الضابط بورتر، ولكن رصاصة انطلقت منها أصابت أم محمد، وبدأ الأهالى يتحرشون بالضباط وضربوا ثلاثة منهم بينما فر آخران، وسقط واحد منهم، أثر ضربة شمس أودت بحياته.

وتقول رواية أخرى إن الضباط الإنجليز أطلقوا النار على الحمام فأصابوا أم محمد عبدالنبى وثلاثة آخرين، وأنهم أشعلوا النار فى جرن القرية وقتلوا أحد الفلاحين فى قرية سرسنا القريبة الذى حاول رى عطش الضابط الذى سقط نتيجة ضربة شمس.

وجمع البوليس 250 من أهل القرية، وقدم منهم 59 للمحاكمة أمام المحكمة التى شكلها الإنجليز سنة 1895 لمحاكمة المصريين الذين يعتدون على الإنجليز!

وبجلسة 27/6/1906 قضت المحكمة بإعدام أربعة وبالأشغال الشاقة المؤبدة على اثنين منهم والأشغال الشاقة 7 سنوات على 6 آخرين والجلد 50 جلدة على 8 من أهل القرية.

وفى الثانية من ظهر يوم 28 يونية تم تنفيذ الحكم داخل قرية دنشواى وعلى مشهد من الجميع، ووجد مصطفى كامل فى هذا الحادث فرصة للتشهير بالاحتلال الإنجليزى وفظاعته وإجرامه، وأفلحت حملته فاستقال كرومر وترك الديار المصرية.

واستمر مصطفى كامل فى سياسته وكون الحزب الوطنى أول حزب له برنامج فانضم إليه المصريون واعتنقوا مبادئه ونادوا أجمعين: لا مفاوضة إلا بعد الجلاء.

ولم يكد الشعب المصرى يستمتع بلذة استقالة كرومر ومغادرته البلاد حتى قضى مصطفى كامل نحبه وهو فى زهرة صباه تاركاً مكانه لخليفته محمد فريد.

كان قد خلف كرومر معتمد آخر هو سير الدن جورست، كان صاحب مبدأ خطير هو مبدأ فرق تسد فاستطاع استمالة الخديو عباس إليه وإشعاره بأنه صاحب الحق الواجب الرجوع إليه فآمن له الخديو وصدق ادعاءه، وبل آمن بأنه لم يعد فى حاجة إلى الحزب الوطنى أو مناصرة أتباع مصطفى كامل ومحمد فريد.

وبالغ الخديو فى مصافاة المعتمد إلى حد أنه نسى موقف الحزب الوطنى من الإنجليز فعمل بمشاركة جورست على القضاء على الحزب وتشتيت رجاله.

ولم يكن جورست يقطف ثمار سياسته اللعينة ويفلح فى إقصاء رجال الحزب الوطنى عن الخديو حتى انتهج القسم الثانى من سياسته بأن راح يوقع بين عنصرى الأمة لتتصدع كتلة الائتلاف الوطنى، وينسى المصريون فى سبيل التشيع للدين وحدتهم وإخاءهم وأنهم أبناء وطن واحد.

وأفلحت سياسة جورست، وحدث نزاع خطير بين المسلمين وإخوانهم المسيحيين، وكاد النزاع يتطور إلى موقف بالغ الخطورة وجدت فيه إنجلترا ثغرة تنفذ منه وتوطد به أقدامها بحجة حماية الأقليات الدينية.

وذهب جورست وجاء كتشنر، كان سرداراً للجيش المصرى، أما اليوم فهو العميد، ووجد الخديو نفسه مرة أخرى أمام صورة طبق الأصل من عدوه الألد كرومر فتحير ماذا يفعل أمام الطاغية الجديد الذى راح يعمل من جديد على سحب السلطات الشرعية من صاحبها بتركيزها بين يديه ثم مجاهرة ولى الأمر بالعداء العلنى وشهدت البلاد نزاعاً جباراً بين قوتين كانت الغلبة بينهما لكتشنر الذى تملك وتحكم واشترى الذمم وجعل له أحزاباً وشيعاً بين الناس، وأحس الخديو بخطئه يوم آمن لعدوه الألد جورست وصدق نواياه وعمل معه على القضاء على الحزب الوطنى وتشتيت رجاله، إذ تلفت حواليه فلم يجد من يشد أذره ويتعاون معه، وتطور الحال.

ثم قامت الحرب العالمية سنة 1914، ودخلتها تركيا إلى جانب ألمانيا ووجدتها إنجلترا فرصة لتسفر عن وجهها الحقيقى فأعلنت فى 18 ديسمبر سنة 1914 حمايتها على مصر، وقطعت بين البلاد والباب العالى كل صلة مستندة إلى ضرورات حربية أوجبها الموقف!

ولم تكتف إنجلترا بإعلان وصايتها، بل بالغت فى العدوان، ومنعت عودة ولى الأمر إلى بلاده وكان فى رحلة خارج القطر، ثم أصدرت قراراً بعزله، وارتقى العرش من بعده عمه الأمير حسين كامل وراحت مصر تتذوق لوناً غريباً من ألوان التحكم والسلطان!!

 

الأحكام العرفية

كان الشعب بروحه مع المعسكر المضاد للحلفاء، وكان يتمنى هزيمة الإنجليز ليتحقق حلم الجلاء عن بلادهم، وكان الإنجليز يعرفون حقيقة عواطف الشعب بالنسبة لهم، وكانوا يعلمون بوجود نشاط دائب للأتراك والألمان على حدود مصر، بل كانوا يعلمون بوجود تجمعات عثمانية وعربية وألمانية متحفزة تبغى الهجوم على القوات الإنجليزية فى مصر وقطع إمدادات الإمبراطورية والقضاء على مواصلاتها البحرية، فكان أن سارعوا بإعلان الأحكام العرفية فى البلاد ليضمنوا حيدة الشعب.

واجتاحت مصر موجة غضب بعد أن اهتدت العقلية الاستعمارية إلى خلق وسيلة لزج المصريين فى أتون الحرب بأن أوجدت لهم ما سمته نظام التطوع، وبذلك راحت يد إنجلترا تجنيد الشعب وتشعره تحت ستار التطوع بقسوة الحرب.

وعجز الحكم العرفى عن إسكات الألسن اللاكنة لنظام التطوع، وكره الشعب حاله، بل كره بقاءه تحت هذا السيف المسلط، ووضعت الحرب أوزارها، وقد رجحت كفة الحلفاء، وكان على مصر أن تسكت وألا تحاول رفع صوتها فى وجه الاستعمار المنتصر الذى أخضع المارد الألمانى وجعله يركع على ركبتيه.

ولكن ما كاد «ولسن» ينادى بمبادئه، وما كاد صوته يرتفع داعياً إلى حق تقرير المصير، وما كاد ينعقد مؤتمر الصلح حتى انبعث من أعماق الوادى صوت جهورى رنت أصداؤه بقاع الدنيا كلها.

وذعر الإنجليز.. وارتعش المنتصرون حين صحت مصر، ودقت يد الحق باب المستعمر، واهتزت الدار وأرجف من فيها حين سار سيدها يقابل ممثلى الشعب سعد وشعراوى وعبدالعزيز فهمى، وهو يعجب لمجيئهم ويرجو أن يكونوا قد جاءوا لرفع تهانى البلاد لإنجلترا المنتصرة.

وأنصت «ونجت» فى دهشة للزعماء الثلاثة الذين أنابتهم مصر عنها، وهم صارحونه برغبتهم فى الاستقلال وعرض قضية مصر على مؤتمر السلام، نعم لقد أصبحت لمصر قبل بريطانيا قضية تود عرضها على مؤتمر السلام.