رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

وجدي زين الدين يكتب: ثورة 1919 تخلق الوعي القومي السوداني

بوابة الوفد الإلكترونية

 

«الخرطوم» تستلهم فكر الوفد فى الحرية والتقدم

 

دور الحركات الوطنية السودانية فى تحرير البلاد من العبودية

الوفد ينادى بتحقيق الاستقلال التام لوادى النيل

تأثير الصحافة الوطنية المصرية والسودانية فى إرباك الاحتلال

ملخص الحلقة الماضية

تناولت الحلقة الماضية تأثير ثورة 1919 على السودان وكيف أن الخرطوم استنهضت الكتل المستنيرة لمكافحة المستعمر الإنجليزى، كما تناولت الحلقة مطالبة الزعيم سعد زغلول بجلاء القوات البريطانية عن مصر والسودان ورفعت الثورة المصرية شعار وحدة وادى النيل، والمعروف أن تأثير الثورة تجاوز مصر إلى بلدان كثيرة وكان فى مقدمتها السودان الشقيق.

تناقش حلقة اليوم، التأثير المباشر الذى تركته ثورة 1919 فى نفوس أهل السودان الشقيق، ودور الحركات الوطنية السودانية وتأثير الوفد فى اشتعال دورها، خاصة أن السودانيين اشتركوا بكل عواطفهم مع نهج الوفد فى المطالبة بجلاء الاستعمار، وقد قامت كلية غوردون بدور كبير فى خلق الوعى السودانى المناهض للاستعمار، وكذلك نادى الخريجين بأم درمان خاصة عام 1918 وقدمت جمعية اللواء الأبيض دوراً وطنياً رائعاً فى هذا الشأن، وتدور الحلقة من خلال عدة دراسات قام بها الدكتور أحمد إبراهيم دياب، ومن خلال كتاب موريس دب، الوفد وخصومه، ورأى المستشرق جاك بيرك فى كتاب مصر.. والإمبريالية والثورة، وما قاله القطبان الوفديان فخرى عبدالنور وسعد فخرى عبدالنور.

وكان للوفد كل معانى الحرية والتقدم، لقد اشترك السودانيون بعواطفهم مع أهدافه وبرامجه التى ظهرت فى الصحف المصرية واعتنقوا مبادئه ورفعوا شعاراتهم، ولقد وجهوا اهتمامهم لليوم الذى يستطيعون فيه أن يحذوا حذوه. كان للصحافة الوطنية المصرية دور كبير فى خلق الوعى القومى السودانى، فقد كانت تحمل أنباء من كل أجزاء العالم خاصة أخبار الثورات الاستعمارية، فتضمنت مقالات بعناوين مثيرة مثل: «تطور الأوضاع السياسية فى مصر» اعتقال أو إطلاق سراح «غاندى»، مصطفى كمال أتاتورك، مقالات عن الديمقراطية والاشتراكية، عصبة الأمم وكيفية عملها ومهمتها، وتستمر الصحافة الوطنية على هذا النمط تكتب عن يقظة الشرق الإسلامى والنمو المتواصل للروح الوطنية فى كل من مصر والعراق وتركيا والهند والصين.

أما كلية «غوردون» فقد كان لها دور كبير فى خلق الوعى السودانى، فقد كانت سائرة على طريقين، فجمعت الطلبة السودانيين لا فى مجمع واحد فقط ولكن أيضاً جمعتهم مع المدرسين البريطانيين الذين كانوا أساتذة وحكاما، إذ إن الكلية كانت فى أيامها الأولى عبارة عن مؤسسة عسكرية أكثر منها معهداً تربويا.. وقد وصف إدوارد عطية الذى كان فى يوم من الأيام أستاذاً فى الكلية، الجو المدرسى بالآتى:

«كانت مدرسة حكومية فى بلد الحكومة فيه ثنائية، فقد كان المشرفون الإنجليز كل شىء كأساتذة وحكام فى الوقت نفسه، كانت الثانية تطغى على الأولى».

وكلية «غوردون» مهمة من ناحية أخرى، إذ إنها تعد طلابها ليكونوا موظفين فى الخدمة المدنية التى تسير على أيدى مشرفين بريطانيين، ولكن أهم مساهمة ساهمت بها أو أدتها كلية «غوردون» فى تبلور الحركة الوطنية وقيامها، إنها قد ساعدت كثيراً فى جمع صغار السودانيين من مختلف القبائل والأوضاع الاجتماعية ليفكروا ويعملوا يداً واحدة، لقد كانت الكلية بالنسبة لطلبتها أرضاً جيدة للاجتماعات والمناخ المناسب الذى انصهرت فيه كل التقاليد والعصبيات وتحولت إلى ولاء للروح الوطنية والتطلعات الجديدة. ثم كان قيام نادى الخريجين بأم درمان عام 1918 نتيجة هذه الروح الجديدة، لقد كان أول محاولة للمثقفين السودانيين لتحويل المجهودات التطوعية إلى عمل اجتماعى شارك أعضاؤه إلى حد كبير فى المجتمع وإلى حد أكبر فى المستقبل.. وقد استوحى القائمون بإنشاء النادى فكرتهم من وجود مثيلتها فى مصر آنذاك (نادى المدارس العليا) أيام كان الأحرار فى وادى النيل يحذون حذو مؤسس الحزب الوطنى مصطفى كامل.

لقد كانت مقالات «الحضارة» التى نشرتها ابتداء من 7/8/1920 تحت عنوان «المسألة السودانية أو السودان ومصر» وحلل الكاتب فيها علاقة السودان بمصر وتطور العلاقات المصرية- السودانية من وجهة نظر معسكره، نوعاً من أنواع التحدى لهذا المعسكر الذى جمع الشباب الثائر، وكان لا بد من أن يكون عندهم رد فعل عنيف وسريع، وكانت الطريقة الوحيدة التى استعملوها للتعبير عن آرائهم والدعاية لفكرهم على مستوى الطريقة الوحيدة التى استعملوها للتعبير عن آرائهم والدعاية لفكرهم على مستوى الجماهير هى المنشورات العلنية والنشرات السرية يعرضون فيها أفكارهم، وفى بعض الأحايين كانت بعض المقالات والقصائد الشعرية تهرب إلى مصر، حيث تجد مجالاً لنشرها فى الصحف المصرية.

أما المنشورات فقد كانت ترسل بالبريد إلى مختلف العناوين فى البلاد بما فيها الموظفون الإنجليز وسائر رجال البلاد من السودانيين مثل زعماء الطوائف والعشائر، وبما يسمى برجال الدين وهم الطبقة التى أوجدها الاستعمار فى كل البلاد الإسلامية التى استعمرها ليتعاونوا معه وقد أدوا عملهم فى هذا المجال خير أداء.. أما المنشورات فكانت توزع داخل المساجد وتلصق فى الأماكن العامة كأعمدة التليفونات وأماكن تجمعات الشعب.

والمنشورات كانت توقع بأسماء مختلفة، فمرة باسم شخص وهمى أو باسم جماعة أو جمعية من الجمعيات مثل ناصح أمين، الإخوان الخمسة، جمعية الأعمال المسلحة، جمعية اليد السوداء، جمعية اليد البيضاء، جمعية العلماء، جمعية العمل على خلاص البلاد، وجمعية الدفاع عن الدين فى السودان، كما أشار إلى ذلك تقرير المخابرات.

واستطاعت هذه الجمعيات أن تكون أول حزب سياسى سودانى، هو جمعية الاتحاد السودانى التى كانت أصل كل المنشورات، أما تعدد الأسماء فهو من أجل السرية على الجمعية، وهكذا قامت معارضة للمعسكر الأول واتخذت المنشورات وسيلة دعائية لها.

وأهمية المنشورات بالنسبة لهذا البحث تقع فى محتوياتها أكثر من طرق توزيعها، فالمحتويات توضح لنا الأيديولوجية التى كان يسير عليها هذا الحزب السرى.. وكانت الفكرة الغالبة على كل المنشورات أنها تدعو للوقوف مع الحركة الوطنية المصرية مطالبة باستقلال كل من مصر والسودان ورفض الاحتلال الأجنبى.. ولعل أول منشور وزع بتاريخ 20 نوفمبر 1920 وقد أثار ضجة وهو الذى أصدره ناصح أمين، وقد أرسله إلى دعاة السودان للسودانيين، موضحاً فيه وجهة نظر معسكر وحدة وادى النيل السياسية، وقد نشرته جريدة «الحضارة» وناقشته، موضحة ردها عليها لكنها نسبته للمصريين..

ويقول كل الذين اتصلت بهم من أعضاء جمعية الاتحاد السودانية إن الذى كتب المنشور هو عبيد حاج الأمين عضو الجمعية.

وبمقارنة المنشور مع بيان آخر كتبه عبيد فيما بعد باسم اللواء الأبيض فى جريدة الأهرام فى 16 يوليو 1924 يظهر التوافق فى الأسلوب واختيار الألفاظ والكلمات، ما يرجح ما ذهب إليه أعضاء الجمعية فى أن الذى كتبه هو عبيد.

المنشور يوضح وجهة النظر المعارضة للاستعمار البريطانى، ويدعو فى صراحة ووضوح للارتباط بالحركة الوطنية المصرية لتحقيق الاستقلال لوادى النيل مصرية وسودانية، ويقول فى إحدى فقراته:

والآن وقد بدأوا بسياسة جديدة بقصد التفريق بيننا وبين إخواننا المصريين، وعندما أقول إخواننا أقول ويعلم الله أنهم مرتبطون معنا بروابط متينة لا ينفصم عراها مدى الدهر، منها الدين والنسب واللغة والوطن والمصالح والجيرة وروابط منذ أكثر من أربعة آلاف عام أى منذ دون التاريخ.

قامت مبادئ جمعية الاتحاد السودانى، التى آمنت بها وسارت عليها وعن طريقها حاول أعضاؤها إلهاب الحماسة الوطنية وجذب أكبر عدد من المواطنين إلى داخل صفوفها، على الدعوة لوحدة وادى النيل.. ويؤيد هذا القول الخطاب المرسل من الجمعية للأمير عمر طوسون وقد أورده صاحب الملامح:

«فى إحدى جلسات جمعية الاتحاد حضرها من أعضاء اللجنة المركزية التأسيسية عبيد حاج الأمين، توفيق صالح جبريل، محيى الدين جمالى أبوسيف، الأمين على مدنى، سليمان كشة وإبراهيم بدرى وهؤلاء يمثلون الجهاز الأعلى، ويقول توفيق صالح جبريل: وفى جلستنا تلك تقرر أن نكتب للأمير رسالة عن طريق صحيفة الأهرام نعاهده فيها والشعب المصرى على العمل المخلص لتحرير الواد من العاصبين:

حضرة الفاضل رئيس تحرير جريدة الأهرام سلاماً واحتراماً..

نناشدك بحق وواجب الصحافة وبما يترتب أو ينتج من توثيق عرى الرابطة السودانية المصرية إثبات هذا الكتاب المفتوح بجريدتكم لإطلاع سمو الأمير والشعب المصرى عليه:

إلى سمو الأمير طوسون:

«إن ما بذلتموه من المجهود العظيم فى سبيل مصلحة السودان، وما أتيتم به من سديد الآراء ومحسوس البرهان لضمان لنا، وما أثبتموه من أن السودان ومصر قطر واحد لا يقبل التجزئة ولا التدخل الأجنبى، حدا بحزب الاتحاد السودانى أن يقرر فى جلسته المنعقدة بتاريخ 10 نوفمبر سنة 1923 تبليع سموكم بأن فى السودان حركة وطنية أساسها القومية الصادقة وغايتها تأييد الشعب المصرى، وألا ينفصل السودان عن مصر بأى حال من الأحوال.

وعلى الرغم من سعى الإنجليز المتواصل وكثرة جواسيسهم وبحثهم للقضاء على تلك الحركة، فإن الجمعيات السياسية كل يوم فى ازدياد فى الأعضاء، ونشاط فى العمل، وقد لا يمر يوم إلا ويتلقى فيه المواطن منشوراً عن الدسائس الاستعمارية واستبداد الإنجليز.

فاقبل يا سمو الأمير سلوكنا على نهج الحق والعمل لصالح السودان ومصر بكل عميق عبارات شكرنا لسموكم وأبناء مصر المخلصين.

فليحى وادى النيل حراً من الإسكندرية شمالاً إلى ما بعد بحيرة ألبرت جنوباً، وليحى الإخلاص».

سكرتير جمعية الاتحاد بأم درمان

أم درمان 10/11/1922

وقد شجعت الجمعية سفر الطلبة السودانيين إلى مصر لطلب التعليم العالى فيها، وأثبت العدد القليل مثل «توفيق البكرى وبشير عبدالرحمن والدرديرى أحمد إسماعيل» الذى استطاع أن يفلت من أيدى المخابرات ويصل القاهرة، فيما بعد، أهمية قصوى فى ربط الجمعية بالحركة الوطنية المصرية.

جمعية اللواء الأبيض:

كانت الخلافات الداخلية بين زعماء جمعية الاتحاد أداة من أدوات نهاية الجمعية.. فقد كانت هناك وجهتا نظر تتجاذبان الذين كانوا الغطاء من نفسها، عندما أرسلت برقية إلى الحاكم العام فى 16 مايو 1924، ويرى على أحمد صالح وحاجى فى أقواله لمستر بيلى مدير الخرطوم أن الجمعية بدأت فى شهر أكتوبر 1923.

وأعتقد «ولس» مدير المخابرات وغيره من الذين وقفوا ضد دعوة وحدة وادى النيل، أن «اللواء الأبيض» نشأت نتيجة زيارة حافظ رمضان، حيث عمل كما يقول تقرير المخابرات السنوى على تكوين «هيئة يجب أن تبدو من جميع الوجوه سودانية تماماً رغم خضوعها لإشراف المصريين من وراء الستار».

وقد كانت زيارة حافظ رمضان رئيس الحزب الوطنى آنذاك للخرطوم فى أواخر ديسمبر 1923، بينما أكد على أحمد صالح الذى كان عضواً فى الجمعية أن أول اجتماع لهم تم فى أكتوبر 1923 فى ليلة المولد النبوى بمنزل الأسطى رمضان بالخرطوم بحرى.

والشىء الذى لا شك فيه أن الجمعية كانت من ناحية التكتيك السياسى والثقافى وطريقة التكوين نظام الخلايا وثيقة الصلة بمصر، ولم تقتصر عضويتها على السودانيين فقط، بل طبقت مبدأ وحدة وادى النيل فى تكوين عضويتها، حيث كان من المؤسسين أخوة من المصريين العاملين فى السودان مثل: توفيق وهبى قاضى مركز أم درمان، أحمد المنياوى، عبدالحميد حافظ، أحمد المليجى، حامد عوضين سعفان، لكن اشتراكهم لا يغير حقيقة كون الحركة فى مجموعها امتداداً طبيعياً للثورة التحريرية التى نهض المصريون فى شمال الوادى وكانت ترمى لاشتراك الشعب السودانى على مرأى ومسمع من العالم فى نضال وادى النيل من أجل الحرية والوحدة. وقد ظهر هذا فى هتاف السودانيين الذى كان هو هتاف المصريين نفسه «تحيا مصر». وقد أرادت المخابرات أن تبرز دخول المصريين

فى الجمعية على أنهم هو أصحاب الفكرة فى قيامها بل إنهم محرضون، ولكن يجب ألا ننسى أن هدف الجمعية هو وحدة وادى النيل وكلتاهما (مصر والسودان) تدين بالإسلام، وكلتاهما تتصل بالأخرى بكل نوع من أنواع الروابط منذ العصور القديمة فى التاريخ.. لقد اختلطتا بالمصاهرة والتجارة والزراعة والفائدة المشتركة حتى صارتا أمة واحدة، فالسكندرى يفهم لغة سكن دار فور أكثر مما يفهم اللندنى الإسكتلندى ناهيك بالايرلندى.

إن هدف الجمعية الأساسى هو تحرير البلاد من عبودية الاستعمار المغتصب: «أبت نفوسنا أن تكون فى موضع البهائم تباع وتشترى بدون أخذ رأيها، وعليه نحتج بكل قوانا على عدم إعطاء مواطنينا الحرية المشروعة».

وللوصول إلى هدفها، فإن الجمعية سوف تسلك الوسائل القانونية، وسوف ترفع صوت الأمة بأى وسيلة. ووضح هذا فى برقية الجمعية فى قولهم: «وكل ما يمكننا عمله تحت هذا الضغط هو إيفاد من يرفع صوتنا لدى ما يمكننا عمله تحت هذا الضغط هو إيفاد من يرفع صوتنا لدى مليكنا المعظم ملك مصر والسودان.

وقناصل الدول بمصر»، هذا هو فكر اللواء الأبيض السياسى الذى وجد التعاضد والتأييد فى كل الزعماء فى القاهرة ومن الضباط والمواطنين المصريين المقيمين فى السودان، ما جعل السلطات البريطانية تصفها بأنها أداة الدعاية المصرية، كما سبق أن أشرت، وفى تقرير عن الفلافل السياسية فى السودان كتبت الإدارة البريطانية تقول: «من الجدير بالذكر أن الأفكار الوطنية منتشرة فى السودان مثل انتشارها فى شمال إفريقيا. وأن الأفكار الوطنية قد امتدت إلى أكثر من هذا أى بين بعض السودانيين الأصليين. كما أن السياسيين المصريين كانوا على اتصال مباشر مع على عبداللطيف وجمعية اللواء الأبيض، ورغم أن ثمة سبباً لاعتقاد أن بعض أفراد الضباط المصريين له صلة خفية بالحركة، إلا أنهم لم يظهروا علانية أى علامة لعدم الرضا».

إن هذا التقويم للصلة بين مصر والسودان وبين وجود المصريين فى الجمعية لا يقوم على أى أساس مادى أو على أى تفكير عقلى، بل قام على حقد من الإداريين الإنجليز والكتاب الذى كتبوا تاريخ السودان، نحو مصر، يوضح ذلك، وإلى أى مدى عماهم الحقد فى وصل الصلة بين مصر والسودان، قول التقرير السابق نفسه «إن الصلة الوحيدة التى تربطهم- السودانيين بالمصريين- هى أنهم جميعا يكرهون الاحتلال الإنجليزى».

إن الصلة بين الفكر الثورى لجمعية اللواء الأبيض وبين تلك الأفكار والأساليب التى أنتجها الوفد فى مصر متشابهة لدرجة تمكننا من القول إن الوطنيين السودانيين قد ساروا على النهج المصرى فى حركتهم. فلقد كان لنجاح الوفد فى تجهيز المظاهرات الجماهيرية، اضطرابات العمال والموظفين، مقاطعة المواصلات، التكوينات العمالية وغيرها من الأساليب الثورية فى أوائل العشرينيات قد خلق أثراً عظيماً فى عقول زعماء جمعية اللواء الأبيض، ولكن الرط بين اللواء والوفد لا يمكن أن يمتد لأكثر من استعمال أساليب الإثارة السياسية، فلم يكن له أثر فى الأساس الفكرى المرتكزة عليه جمعية اللواء الأبيض وهو وحدة وادى النيل، المبدأ الذى لم يضعه الوفد فى بيان تكوينه وتوكيله، وكذلك بقية الأحزاب المصرية فى الوقت الذى آمنت به جماهير الشعب المصرى ورددته الصحافة المصرية.

 

الخلاصة

إن الحركة الوطنية السودانية التى بدأت فى أوائل العشرينيات من هذا القرن، إنما هى امتداد طبيعى للحركة الوطنية المصرية، بل هى جزء لا يتجزأ منها، فقد قامت على نفس الأسس والمبادئ التى قامت عليها ثورة 1919 فى مصر، بل وربطت توقيتها مع الأحداث فى مصر، فالشبان الذين تلقوا العلم على الأساتذة المصريين قد غرس معلموهم فى أنفسهم حب القراءة والتطلع إلى حياة جديدة، فأصبحوا ينظرون حولهم بمنظار لم يعرفه سلفهم، فعرفوا شيئاً اسمه الوطن، واستقرت فى نفس هؤلاء أن التضحية فى سبيل الوطن وحريته هى الشهادة والشرف والكرامة.

وكانت حركة المقاومة فى مصر وبطولة الزعيم مصطفى كامل ومواقفه الخطابية تتوهج فى نفوسهم وتسرى فى أعماقهم، وكما قال محمد أحمد محجوب: «إننا كنا سرعان ما نلجأ إلى مجموعة خطب مصطفى كامل نقرؤها فى نبرات خطابية ونستظهرها عن ظهر قلب ونحس أننا مكانه من الجموع الحاشدة، تسمع إلينا فى إعجاب، وتقاطع جملنا بالتصفيق والهتاف.. وهذا القول يبين لنا إلى أى مدى أثرت مصر بالثقافة السياسية فى خلق وتكوين الذين قاموا بثورة 1924 والجيل الذى جاء بعدهم».

فبعد مرور عشرين عاما من نزول الحكم الاستعمارى، قامت حفنة صغيرة من هؤلاء المثقفين الذين أخذوا معالم الوطنية من خطب مصطفى كامل وكفاح محمد فريد، وبعد أن أثرت فيهم روح ثورة 1919، ووصلت إليهم أنباء ثورة مصر الوطنية، قام هؤلاء، ويشد من أبرزهم إخوانهم أبناء مصر العاملون فى السودان، بعد أن شعروا بالضيم والذل، بتأسيس الجمعيات ذات الطابع الاجتماعى والسياسى.. ولم يكن الضيم والذل غير حقيقيين، ولا كانا موجهين لنسبة ضئيلة من السكان، وخير دليل على ما كتب عن عدم الرضا هو ما كتبه على عبداللطيف مبيناً مطالب الأمة وهو يعتبر بحق أول محاولة جريئة لتحليل أسباب الضيم والذل الاجتماعية الواقعة على الشعب السودانى.

ولقد تحولت تلك المظالم إلى أيديولوجية لمعارضة حكومة السودان بعد وقت قصير من دخول الاستعمار، ويمكن إيعاز ذلك التحول إلى عاملين هما: طبيعة الحكم الاستعمارى نفسها، وإلى بعث الحركة الوطنية المصرية بعد الحرب، فطبيعة أداة الحكم الثنائى قد اعتبرت وضعاً مريحاً حيث تمتعت الطبقة الحاكمة فى مصر بالسلطة الاسمية فى السودان، بينما كان زمام القيادة الأصلية والحكم الفعلى فى أيدى الإنجليز، ولكن تطورت الأحداث السياسية السريعة فى مصر بعد الحرب مباشرة أدت إلى ارتباك الإدارة البريطانية فى السودان وصارت مصدر استياء وامتعاض للوطنيين المصريين الذين هتفت جماهيرهم بوحدة وادى النيل، وقد أدت المشكلة التى ظهرت حول مستقبل السودان إلى ظهور السودانيين فى الصورة كعنصر ثالث وقف فى صف واحد مع الثورة المصرية، بل ورفع شعار وحدة وادى النيل، الشىء الذى لم يكن يتوقعه الإنجليز بل لم يحسبوا له حساباً لأنهم ظنوا أن البذور التى بذروها قد نمت وازدهرت وأثمرت وأصبح الشعب موالياً لهم وبحكمهم فرحاً.

ومما لا شك فيه أن الحلف المقام بين الإدارة الاستعمارية والسلطة التقليدية المكونة من زعماء الطوائف الدينية ورجال الذين والعلماء ورؤساء القبائل والعشائر وكبار الموظفين فى السودان، قد دفع الوطنيين السودانيين للعمل مع الوطنيين المصريين.. فمطلب السلطة التقليدية لتتكلم باسم البلاد وتسليمها لبريطانيا بأن تنفرد بحكم السودان وتشجيع السلطة البريطانية لهم للسير قدماً فى هذا الطريق، قد أدى إلى ما يمكن أن نسميه اتجاهاً نحو مصر.

لقد هيأت القوى الكامنة، الثقافية والسياسية والاجتماعية منها لمعظم السودانيين أن يتجهوا نحو مصر. وأخذت شكل التعاون الوثيق مع الوطنيين المصريين الموجودين بالسودان، ومن هذا المنطلق والتفكير نبع مبدأ «وحدة وادى النيل» من عند ملتقى النيلين فى الخرطوم سودانيا مصرياً، ولم يكن شعاراً تكتيكياً مرحلياً فرضته الظروف القاسية التى كان يواجهها الوطنيون السودانيون فى مواجهة الاستعمار البريطانى فى السودان، ولم يكن تكتيا سياسيا من أجل غاية ميكافلية هى إخراج الإنجليز أولاً من وادى النيل، ثم مواجهة المصريين، ثانياً: كما يحلو لبعض ذوى الأغراض من الكتاب والمؤرخين أن يقولوا.. لا. فقد كانوا يؤمنون بوحدة وادى النيل إيماناً أيديولوجياً، فقد كانت ثورة الجنود السودانيين فى ليلة انسحاب الوجود المصرى السياسى والعسكرى من السودان مثلا حياً لهذا المبدأ.