عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الشيخ أحمد حجاب.. الصوفى الفيلسوف

الشيخ أحمد حجاب
الشيخ أحمد حجاب

< الولى="" الذى="" اعتزل="" الخلق="" وانشغل="" بعبادة="">

< سر="" تبجيل="" الرئيس="" «السادات»="" للشيخ="" ومداومة="">

< «الشعراوى»="" يروى="" مواقف="" «حجاب»="" معه..="" وشاهدان="" يرويان="" كرامته="" فى="" العام="">

< رد="" على="" فلسفة="" «هيجل»="" و«ماركس»="" وأوضح="" الفرق="" بين="" الرضا="" الإلهى="" والمشيئة="">

 

جملة من الأسئلة طرقت الرأس عبر رحلة البحث فى مصير هؤلاء القوم ومنهجهم وفكرهم، وكذلك معتقدهم وهويتهم، معظم من التقيتهم من المتصوفة، أصحاب خطاب فكرى وفلسفى مبسط، كانت القضايا تدور بينى وبينهم فى إطار من التجاذب ثم تحول بعدها إلى لغة غير مفهومة لكلينا، -أنا وهم -، غير أن صوتاً بداخلى يخبرنى أن منبعاً عند أحد رواد هذه الفكرة ربما أروى منه شغفى للحصول على متن المعرفة، أو إن شئت أن تسميه «تجل من تجليات اليقين» كما سماه الإمام أبوحامد الغزالى فى كتابه المنقذ من الضلال.

 ولعلنى أستحضر ذكريات يوم بعيد من سنوات عدة قد مضت، وقد التقانى رجل عقب صلاة الفجر أمام المسجد الأحمدى بطنطا، قال لى الرجل: «ماذا تريد منا؟»، فكان اندهاشى مصحوباً بتساؤل: «ماذا تقصد؟» فباغتنى بإجابة بها صد وفظاظة: «اسمع نحن لا نفهم فى الصحافة ولا الفلسفة وهذا الطريق ليس لك». كلماته أشعرتنى بمزيد من الاغتراب بينى وبين هؤلاء القوم. هى الإجابة نفسها التى أججت بداخلى معركة لا تقبل إلا الانتصار أو الهزيمة بلا منطقة ثالثة، حتى التقانى رجل ما زلت أذكر ملامحه، شعره الأبيض الذى يميل إلى اللون الثلجى، قامته الطويلة، ما جذبنى إليه هو رحمته بخلق الله، إطعام القطة التى تتحرك فى المسجد، ابتعاده عن الخلق وعكوفه لمواصلة تسابيحه التى يتمتمها فى خفوت. وما إن جلست بجواره محاولاً كسر خلوته حتى قال لى: «إجابات تساؤلك عند الشيخ أحمد حجاب» قال لى الرجل جملته دون أن يعرف مقصدى ولا تساؤلى، أخبرنى بجملته ثم ودعنى.

 

«الشعراوى» والشيخ «حجاب»

يقول فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى، بعد أن تخرجت فى الأزهر، عملت مدرساً فى معهد طنطا الدينى، كنت أسكن فى بيت إيجاره (اتنين جنيه).. وكنت حريصاً على أن أصلى المغرب والعشاء فى مسجد سيدى أحمد البدوى.. كان مرتبى فى ذلك الوقت عشرة جنيهات، وكنت أعانى ظروف الحياة الصعبة.

 عانيت وأنا طالب فى الأزهر، وعانيت أكثر بعد أن تخرجت، وعملت مدرساً فى معهد طنطا، كانت المعاناة أشد بعد التخرج والعمل.. لأن الأولاد كبروا، وزادت الأعباء ولم يكن يمضى شهر إلا وأقترض لمواجهة أعباء الأسرة والأولاد.. وكان لى صديق فى بلدنا دقادوس اسمه محمد حسنين.. وكان صاحب مطعم، وكان يمدنى بكل ما أحتاجه على سبيل الدين! وإن كان هو لا يعتبره ديناً بحكم ما بيننا من الصداقة.. كنت أقترض منه شهرياً لسد احتياجاتى.. وتراكم الدين إلى أن أصبح المبلغ 355 جنيهاً.. وهو مبلغ كبير بالنسبة لظروف ذلك الوقت!! وحدث أن أعلنوا فى سنة 1948 عن بعثة للأزهر للعمل فى السودان، وكان من الممكن أن أسافر ضمن هذه البعثة، لكن صديقى محمد حسنين أقنعنى أن السفر فى هذه البعثة لايستحق الغربة.. فصرفت النظر عنها.. وبمرور الأيام اشتدت معاناتى وازداد قلقى!! وفى سنة 1950 جاءنى شيخ جليل هو الشيخ أحمد حجاب.. جاءنى فى البيت وقال لى.. يا ولد! قلت: نعم يا مولانا.. قال الشيخ حجاب: ابقى روح ودع سيدك أحمد البدوى.. فسألته: أودعه ليه؟؟؟ قال الشيخ حجاب: لقد بشرنى أن هذه السنة آخر سنة لك فى طنطا.. وهو لا يبشرنى إلا إذا كانت هناك حاجة حلوة.. وقال الشيخ الشعراوى: وبعد أيام من هذه البشارة.. بشارة سيدى أحمد البدوى.. علمت بترشيحى ضمن بعثة الازهر للعمل فى مكة المكرمة».. ذكر الشيخ الشعراوى هذا الأمر فى كتابه «أنا من سلالة آل البيت».

 

ضريح الشيخ

فى الغرفة المجاورة لضريح السيد أحمد البدوى، رضى الله عنه، وعلى بعد بضعة أمتار تتواجد غرفة بها ضريح التلميذ الأول للبدوى، وهو السيد عبدالمتعال الأنصارى، ويلقبه أهل الطريق بالوزير كونه مريداً عاصر الأستاذ وتشرب منه تعاليمه ونصائحه فى كيفية الزهد الحقيقى ومجاهدة النفس، وعلى مقربة من ضريح الوزير يقع ضريح فى ركن الغرفة الأيمن، معلق عليه لافتة نحاسية مخطوط عليها بخط النسخ «الشيخ أحمد حجاب»، مستحضراً الجملة التى أخبرنى بها الرجل أن إجابات تساؤلى تكمن عند صاحب هذا المقام، وهى اللحظة التى توقفت فيها للمرة الأولى أمام مقام سيدى أحمد حجاب، محاولاً تأمل كل المنمنمات، الخشب بلونه البنى، شكل الكسوة الخضراء التى تغطى الضريح، صورة للرجل بعمامة بيضاء وكوفيه حمراء يلفها حول رقبته، تعاشيق الخشب الأرابيسك المصنوع ببراعة وتفنن، وكأنما محكوم ومغلق على سر من أسرار الله فى كونه، متوقف أمام الضريح وثمة سؤال يطاردنى كيف لصاحب هذا المقام أن يجيب عن تساؤلى؟.. لا أعلم كم من الدقائق الزمنية أخذتها وقفتى أمام صاحب هذا المقام، لكنَّ صوتاً جاءنى من جوارى لنفس الرجل صاحب الشعر الثلجى والذى انتبهت لنبرة صوته قبل ملامحه وهو يسألنى: «هل قرأت له كتاب العظة والاعتبار؟».. وكانت هذه هى البداية.

مع الفليسوف هيجل

اقتنيت الكتاب، وظننت أن صفحاته الأولى ستكون عرضاً لفكر التصوف والمتصوفة، لكنَّ دهشتى كانت فى التصفح الأولىِّ للكتاب، فقد اطلعت على كتابات مفكر أقرب منه إلى المتصوف، كتابات فليسوف أقرب منه لرجل دين، كتابات تتحلى بمنطق لغوى ومنهج قياسى فى العرض والطرح، والأغرب هو تبويب الكتاب؛ حيث عرض صاحبه للكتاب فى صورة رسائل، وكانت دهشتى حين تعرض الشيخ للفلسفة الماركسية فنجده يقول: «حدث فى القرن الثامن عشر أن ماركس – تلميذ هيجل فى الفلسفة - خرج على هيجل، وخرج معه أنجلز، واعتقدا معاً نقيض ما يعتقده هيجل، كما صرح بذلك ماركس نفسه حين قال: إنَّ حركة الفكر التى يجعلها هيجل ذاتاً يسميها الفكرة الأزلية هى عنده خالقة الواقع، وليس هذا الواقع إلا صورة ظاهرية للفكرة الأزلية. هيجل عنده أن الله هو خالق الواقع فى الكون، وليس هذا الواقع إلا صورة ظاهرة لما فى الفكرة الأزلية، بينما ماركس عنده أن الواقع موجود بطبيعته بما فيه الإنسان».

وعبر القراءة فى الرسالة الأولى من كتاب الشيخ أحمد حجاب العظة والاعتبار نجده يتناول المفهوم الغربى لما قبل الثورة الصناعية لفكرة القدرية والتى تبناها رجال الدين لمعاونة المستبدين بقولهم إن إرادة الله هى التى تختار الملاك للأراضى والعبيد، ومن ثم يعرض الشيخ المفكر أو إن شئت أن تسميه الولى صاحب الاتجاه الفلسفى فى البحث عن الحكمة، يعرض لإشكالية شديدة التعقيد، وهى التفريق بين المشيئة الإلهية الرضا الإلهى، فنجده يقول: «إن مذهب الفلاسفة الروحانيين القائل بأن الكون وكل ما اشتمل عليه الكون صورة ظاهرية للفكرة الأزلية يجب تمحيصه وتصحيحه على الأصول المرعية فى الشرائع الإلهية؛ لأن بقاء هذا المذهب على ظاهره يرسم فى العقل صورة خاطئة، وقد علمت أن الحكام والقياصرة والمستعمرين قد اتخذوا هذه الصورة الخاطئة دليلاً لهم على أن الله هو الذى أقام القياصرة والمستعمرين على رؤوس الناس فى أرضه، فالله لا يرضى عن كل ما هو واقع فى الكون.. بل إنَّ 99% مما هو واقع فى الكون من أعمال الناس وأفعالهم لا يحبه الله ولا يرضى عنه».

 

بين الأقارب والأباعد

ولد الشيخ أحمد محمد حجاب فى قرية «مينا حريت»، التابعة لمحافظة الشرقية فى 14 من يناير عام 1892 م. أكمل حفظ القرآن وجوده ثم حفظ جميع المتون والمصنفات الأزهرية التى تدرس فى القسم الابتدائى والقسم الثانوى، وفى المرحلة الابتدائية كان للشيخ قصة مع أحد أساتذته وهو فى أول حضوره فى السنة الابتدائية؛ حيث نظر إليه شيخه الشيخ عبدالدايم الشيمى وقال متعجباً: «سبحان الله سيكون لهذا الولد شأن عظيم»، تدرج الطالب فى سنوات الدراسة وكان من المتفوقين، فكان ترتيبه بين عموم طلبة المعاهد الأزهرية هو السادس فى العالمية النظامية والرابع فى الشهادة الثانوية.

عقب إتمامه المرحلة الثانوية، علم الفتى الشيخ أحمد حجاب أن أصدقاء له يترددون على أحد الرجال الصالحين يدعى السيد محمد أفندى الشريف، كان رجلاً ورعاً وزاهداً، فذهب إليه الفتى الشيخ وتعرف عليه ضمن أصدقائه، وما إن وقعت عين الشيخ محمد أفندى الشريف عليه حتى أوجد الله الألفة بين الشيخ والمريد الجديد، فقال له الشيخ محمد شريف: «يا أحمد زرنى كل أسبوع ستسرنى زيارتك»، وكانت هذه هى المرحلة الأولى من التلاقى بين شيخ حقيقى ومريد، شمل الشيخ أحمد حجاب برعايته وتربيته النفسية، فكان دائماً ما يؤكد عليه أن القرب لله بحاجة إلى تطهر نفسى وروحى، وأن المشغول بالله لا يشغل بأحد، ومرت أيام التعلم بين المريد أحمد حجاب والشيخ محمد الشريف، وشهد الشيخ أحمد حجاب كرامات أجراها الله على يدى شيخه محمد الشريف ليثبت فؤاده منها أن السيد محمد أفندى الشريف قال يوماً للشيخ أحمد حجاب: «يا أحمد هل يرتدى والدك لبدة حمراء تحت عمامته وكان السيد محمد الشريف لا يعرف والد الفتى أحمد حجاب، فأجابه لا يا شيخى»، فقال الشيخ محمد الشريف للفتى أحمد حجاب: «اذهبا أنت وأخيك لتأتيا بوالدكما من محطة القطار، فرد الفتى أحمد حجاب: إن والدى قطاره لن يصل الآن فأمامه قرابة ست ساعات.

لكنَّ الشيخ محمد الشريف تركه وانصرف وامتثالاً لرغبة الشيخ الشريف قرر الشاب أحمد حجاب أن يرسل أخاه إلى محطة قطار طنطا امتثالاً فقط لأمر الشيخ، وتوجه هو إلى المسجد، وبعد دقائق فوجئ بأخيه يصطحب أباه ويدخلان إلى المسجد ولما سلم الشاب أحمد حجاب على أبيه اكتشف أن أباه بالفعل يرتدى لبدة حمراء تحت عمامته».

ليست هذه هى الكرامة الوحيدة التى يرويها الشيخ أحمد حجاب عن شيخه الذى كان المحطة الأولى فى حياته لتلقى تعاليم التصوف والزهد والطريق. إن ما يستوقفنا هنا هو تطور سير العلاقة بين الشيخ والمريد، هذه العلاقة التى لا يمكن الحكم عليها ولا التنبؤ بمسار تحولها؛ لأن تحولها يكون فى غاية التعقيد بين الشيخ والمريد، فمن الممكن أن يكون للشيخ مئات المريدين لكن قلبه قد يتعلق بمريد واحد يرتأى فيه الصدق والإخلاص فيخصه بالحب ويؤثره على أبنائه الذين من صلبه. وتطور أمر التعلق بين الشيخ محمد أفندى الشريف ومريده وتلميذه الشيخ أحمد حجاب، فنجد الشيخ الشريف يعلن لجميع مريديه وأبنائه جملته الشهيرة: «اخترتك من بين الأقارب والأباعد»، ويبادل الشاب أحمد حجاب شيخه التعلق والإيمان بشخصه لدرجة أنه يتقدم بطلب مصاهرته ويتقدم للزواج من كريمة ابن الشيخ، فقال له الشيخ اقرأ لى سورة طه، فلما قرأها توقف الشيخ أحمد حجاب عند قوله تعالى: «قال فاذهب فإن لك فى الحياة أن تقول لا مساس» «طه: 97». فرد الشيخ الشريف عليه بقوله تعالى: «وإن لك موعداً لن تخلفه» «طه: 97» ويعلق الشيخ أحمد حجاب فى معرض ذكره لهذا الأمر بقوله: «وقد مضى على هذه المسألة أربعون سنة، وكان نصيبى من الزواج ما تضمنته هذه الكلمة التى وقفت عليها: «لا مساس» مع أنى كنت متزوجاً من قبل، فلله الأمر من قبل ومن بعد».

وعقب وفاة الشيخ الأول لتربية النفس السيد محمد أفندى الشريف لزم الشيخ الصغير أحمد حجاب المسجد الأحمدى بطنطا، ولم يفارقه وهنا بدأت مرحلة تالية وهى مرحلة التربية الروحية أو ما يسميها أصحاب هذا الطريق «التربية البرزخية».

معاصرو الشيخ

ما زال هناك رجال عاصروا الشيخ الذى كانت وفاته عقب حرب أكتوبر 1973م، ببضع سنوات، ومنهم المهندس الزراعى محمد عبدالمنعم مفيد، وكان والده إقطاعياً بمحافظة الغربية وإلى الآن هناك عزبة تسمى باسم أبيه اسمها عزبة مفيد ما بين الطريق من طنطا إلى مدينة كفر الزيات، يقول المهندس محمد مفيد: «إن الشيخ أحمد حجاب رضى الله عنه وأرضاه كان يجلس للعبادة النهارية فى المقام الأحمدى على يمين الداخل من باب المقام الكبير شاخصاً ببصره إلى أعلى المقام من ناحية القبلة. وكان الشيخ من أصحاب نهج التشرع ثم التشرع فإنه لا يرتضى بأى أفعال تصدر فيها خلل شرعى، فكان يحث زائريه على الصلاة، وكان يكرر لهم مقولة «القرآن القرآن».

 وذات مرة ذهبنا للسلام عليه فوجدناه يقبض على يدى أنا وأخى ويتشمم من منطقة العروق فعرفت من والدى أنه يشم رائحة الأشراف من عروقهم، وكانت هذه من أشهر كراماته أنه يتعرف على الأشراف الذين

هم من نسل النبى صلى الله عليه وسلم بحاسة الشم.

كما أن المتداول والمتعارف عليه بين أهالى مدينة طنطا، أن الرئيس الراحل محمد أنور السادات كان دائم الزيارة للشيخ، وكان الشيخ يقتطع من وقته قبل خلوته ليجلس مع رئيس الجمهورية، بينما إذا صعد لخلوته فلم يكن يلتقى أى فرد، وكان يقول للعاملين، إن خلوتى هى مناجاة مع مالك الملك فكيف يكون الانسحاب من حضرة الملك للقاء تراب يسير على تراب، فكان لا يخشى إلا الله، ولم يشغله نفر عن خلوته لحديثه وعبادته لله.

التربية البرزخية

غير أن السؤال الذى يقتحم الذهن دون هوادة هو: كيف سارت المرحلة الثانية من مرحلة التربية الروحية فى حياة الشيخ أحمد حجاب؟ أو بتعبير أكثر تبسيطاً كيف كانت حياته بجوار ضريح سيدى أحمد البدوى استكمالاً للتربية الروحية للشيخ الذى لزم مقام السيد أحمد البدوى «صاحب اللثام» واعتزل الناس متفرغاً لعبادة الله؟

يسمى أهل التصوف هذا الأمر بالتربية البرزخية، وهى تربية قائمة على فكرة أن الولى الصالح بالتعبير القرآنى حى يرزق فى برزخه وقبره، وأنه بإمكانه أن يمد تلاميذه ببعض التعاليم وقواعد التربية من خلال الرؤى أثناء النوم أو من خلال خاطر يقع فى القلب، لكنها مرحلة راقية لا يصل لها كل من يدعيها فهى مرحلة تتطلب صفاء سريرة وقلب مع الله، لكن لكى يكون الأمر مبسطاً للقارئ فلنا أن نوضح أن الشيخ أحمد حجاب أو العارف بالله سيدى أحمد حجاب كان من رجال الزهد الحقيقى الذين لم يلتفتوا إلى منصب دنيوى، وكان رجلاً عاكفاً على قراءة القرآن متعبداً، زاهداً، صاحب علم طرحه فى كتابه الذى رد فيه على بعض القضايا التى غزت المجتمع المصرى فى مرحلة السبعينيات أثناء الغزو الثقافى لفكر البادية وانتشار ثقافة الرصيف وشرائط الوعظ الممولة بالنفط أو ما سماها بعض المفكرين «ثقافة البترودولارالدينية».

الرسالة الرابعة: مساجد بها أضرحة

وكما سبق وذكرنا أننا أمام عالم تقى ورجل دين يملك بناصية العلم ويتحدث بلغة التشرع قبل التحقق، فنجد العارف بالله سيدى أحمد حجاب فى رسالته الرابعة التى وردت فى مؤلفه شديد الأهمية العظة والاعتبار يقول رداً على ثقافة البادية التى غزت مجتمعنا المصرى وحرموا الصلاة فى مساجد بها أضرحة: «اتخاذ المقابر مسجداً معناه أن تجعل القبر موضعاً لصلاتك فوقه وسجودك عليه تعظيماً لمن هو مدفون فى القبر، أو أن تجعل القبر نفسه قبلتك التى تتوجه إليها فى صلاتك كالكعبة.. وخلاصة النهى عن هذا المعنى هو المصرح عنه فى رواية الطبرانى: «لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر».

 أما الحديث الذى يروجه البعض دون فهمه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، أن الحديث نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد حتى لا يعظمها الناس ولا يقدسها العامة من دون الله، وهذا التحذير جاء من النبى صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته مخافة أن تقع الأمة فى تقديس نبيهم من دون الله. ويسجدون للنبى من دون الله. وهل مساجد النصارى واليهود كمساجد المسلمين؟.

إن لفظ مسجد فى الحديث يعنى موضع السجود، وهو أمر لا جدال فيه؛ حيث هو محرم السجود على مقبرة، أن أضرحة الأولياء تقصد للتبرك والاستشفاع وطلب المعاونة وقضاء الحاجة من الله على يد أصحابها ويستكمل الشيخ أحمد حجاب فى رسالته الرابعة بمؤلفه بقوله: «ولا أظن أن مسلماً واحداً نوى فى صلاته أن يصلى ركعتين للسيد البدوى أو خلافه إطلاقاً، فنية المسلم معقودة على أن الصلاة معقودة لله وحده. أما إذا استقبلت القبلة واستدبرت القبر أو جعلته عن يمينك أو عن يسارك فلا حرمة ولا كراهة، فإذا استقبلت القبلة وجعلت القبر بينك وبين القبلة فإن كنت بحيث لو صليت صلاة الخاشعين لم يقع بصرك على القبر فلا حرمة ولا كراهة، وإن كنت بحيث أن صليت صلاة الخاشعين وقع بصرك على القبر فصلاتك مكروهة فقط».

كرامة الشيخ أحمد حجاب فى 2018م

ولا أخفى القارئ سراً أن ما دفعنى للكتابة عن هذا الرجل الجليل هو فضل معنوى وفكرى حيث وجدت ضالتى عنده وداخل معين فكره ومنهجه ومؤلفه، غير أن الأمر استبد بى بعد حكاية أبطالها أحياء يرزقون وحدثت فى العام 2018؛ حيث بطل الحكاية هو المواطن محمد البغدادى 63 عاماً، صاحب كشك أو محل صغير كان يجاور مسرح مدينة طنطا، وهو محل متعارف عليه عند كل أبناء جيلى؛ لأنه على ناصية أهم شارع رئيسى بمدينة طنطا.

وعقب تجديدات مسرح طنطا صدر قرار من المحافظة بإزالة الكشك أو المحل الصغير وهو مصدر دخل الرجل وقوت أولاده، ودأب الرجل كل يوم فى التنقل بين المحافظة ومجلس المدينة دون جدوى من إيجاد حل أو بديل؛ حيث إن القرار بتجميل مسرح المدينة يقتضى إزالة هذا المحل الصغير. وحزن الرجل حزناً شديداً أنهك روحه واستسلم لكنه فى هذه الليلة اختلى بعيداً عن زوجته وأولاده وأغلق باب غرفته وبكى بحرقة شديدة؛ حيث لم يعد هناك مصدر للرزق وقوت العيال، وإذ به ينام رغماً عنه جراء الدوران واللف على مكاتب الموظفين، وإذ به يرى فى نومه الشيخ أحمد حجاب، ويطلب منه أن يذهب عقب صلاة الظهر مباشرة لرجل اسمه شريف أنور، شركته بجوار مقابر طنطا.

 وقال له الشيخ أحمد فى الرؤيا اذهب له وستحل مشكلتك وانت جالس عنده. وما إن استيقظ الحاج محمد البغدادى حتى نفذ ما أوصاه الشيخ أحمد حجاب.

ثم إلى شاهد القصة الآخر شريف أنور، الشاب الذى قبل الأربعين بقليل، وهو أحد المهتمين بالعمل العام، وينتمى لأسرة أرستقراطية تعمل فى مجالات الاستثمار والتشييد وحديد التسليح، يقول شريف أنور: «فوجئت بالحاج محمد البغدادى أمامى فى المكتب بعد صلاة الظهر ويقول لى: إياك أن تسخر منى سيدى أحمد حجاب جالى فى المنام وقالى روح لشريف أنور وستحل مشكلتك عنده»، الحقيقة أننى ومجموعة من زملائى تبنينا مشكلة محل الحاج محمد البغدادى، لكن للأسف كان الرد من المحافظ والمسئولين أن الأمر مستحيل، لكن بعد أن أنهى الحاج محمد البغدادى حديثه لى فوجئت باتصال صديق لى يعمل بديوان عام المحافظة يخبرنى بأن محافظ الغربية السابق للمحافظ الحالى يريد لقاء الرجل صاحب محل البقالة لأن مشكلته أوجدوا لها حلاً. كنت مندهشاً بطريقة لا يمكن تخيلها لأنى تأكدت أن الأمر شبه مستحيل، والحمد لله كانت الأمور ميسرة وذهب الحاج محمد البغدادى للمحافظ وتسلم محلاً بنفس القيمة الإيجارية القديمة على بعد بضعة أمتار فقط من محله القديم. وهو ما دفعنى لإحساسى بالجهل تجاه هذا الولى الصالح الذى نقبت عن كل ما يتعلق به للقراءة عنه. وقد قدمت اعتذارى له بأن قرأت له الفاتحة.

أحياء عند ربهم يرزقون

فى عام 1978م، استيقظت محافظة الغربية وتحديداً مدينة طنطا على صوت المؤذن من داخل المسجد الأحمدى يعلن وفاة الشيخ أحمد حجاب، إذ يتوجه للمسجد ملايين المشيعين من أبناء المدينة والمحافظات المجاورة، ليندهشوا من أن النعش سيتم دفنه بالضريح المجاور لسيدى عبدالمتعال الأنصارى، فيعلم المسئولون أن وصية الشيخ قبيل رحيله مع الرئيس أنور السادات هى دفنه بجوار مقام أستاذه أبى الفتيان وصاحب اللثام السيد أحمد البدوى؛ حيث إنَّ هناك سراً بين الشيخ ورئيس الجمهورية المصرى، شاهده هو التكليف الجمهورى بدفن الشيخ المريد بجوار أستاذه.

ولكنى سأختم هنا بحقيقة تاريخية ورواية موثقة أثبتها الكاتب محمود رافع فى كتابه «الرؤساء وأقطاب الحقيقة»؛ حيث يقول: «وفى فجر أحد الأيام، علا صوت بكاء السادات متضرعاً وصارخاً من أعماق قلبه: يا الله يا مغيث، إذ دخل عليه العارف بالله الشيخ أحمد حجاب أستاذ العلوم الشرعية بالمعهد الأحمدى بطنطا، وإمام وخطيب مسجد السيد البدوى، وفور أن رأى السادات ولم يكن معروفاً حينها أو مشهوراً، وهو مفصول من القوات المسلحة حتى قال له حجاب: «أهلاً بك يا خديوى مصر، سوف تكون رئيس مصر». فرد عليه السادات: «يا مولانا أنا مفصول من الجيش وأريد العودة لعملى، فرد عليه الشيخ أحمد حجاب: «سوف تكون رئيس مصر»، ومضت السنوات، وتولى السادات رئاسة مصر، ولم ينقطع عن زيارة سيدى أحمد حجاب فى خلوته بالمسجد البدوى.