رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

المستشار لبيب حليم لبيب يكتب:فى المسألة القبطية

المستشار لبيب حليم
المستشار لبيب حليم لبيب

أحداث الفتنة الطائفية فى المنيا.. حنين إلى الماضى الغابر

التطرف الدينى خطر حقيقى يهدد الوحدة الوطنية فى مصر

الدولة المدنية التى ينص عليها الدستور لا تميز بين أبنائها

«لهم ما لنا وعليهم ما علينا».. مبدأ مستقر فى الضمير المسلم منذ 14 قرناً

 

أكتب هذه السطور بعد مرور أسابيع قليلة على أحداث الفتنة الطائفية، التى وقعت فى إحدى قرى محافظة المنيا، التى مُنع خلالها الأقباط من بناء كنيسة، يؤدون فيها شعائر دينهم، والتى بسببها صلّى الاقباط على ميت فى إحدى حوارى القرية!!

ولا يمكننى أن أنكر أن الأحداث التى وقعت فى مصر، خلال حكم أنور السادات، وحسنى مبارك، وعبدالفتاح السيسى، ومن عشرات الصدامات الحاصلة بين المسلمين والأقباط، لم تكن مجرد مناوشة عابرة بين بعض الأفراد غير المسئولين سرعان ما يحتويها بيت العائلة، أو هى أحداث خططت لها المخابرات الإسرائيلية أو التركية أو القطرية، لأن الأحداث التى شهدتها مصر ليست حادثًا عارضًا فى المجتمع المصرى، بل إن تاريخ مصر كله عرف مثل هذه الأحداث وأكثر، والدليل ما كتبه المقريزى، شيخ المؤرخين المصريين، فى كتابه «السلوك لمعرفة دول الملوك» عن أحداث وقعت فى مصر عام 1321 ميلادية، أحرقت فيها ستون كنيسة، وأديرة عديدة، وأحل فيها دم النصارى، وحُفرت الحفر، لإحراق الرهبان والأقباط فيها.. واضطر الكثير من النصارى إزاء سوء معاملتهم وإهانتهم، إلى الدخول فى دين الإسلام، وبذلك فإن الفتن الطائفية ليست حادثًا عارضًا فى مجتمعنا، وإن بواعثها كانت ولا تزال جزءاً من تكوين الفرد العادى فى مصر!!

 

الحنين للماضى!

وقد قرأت فى شبابى عن ظاهرتين، غريبتين حصلتا فى ألمانيا وبريطانيا، متشابهتى الدلالات، ثم قرأت عن انهيارهما، وها أنا أراقب منذ شبابى، وحتى الآن ظاهرة مماثلة، ولا أدرى إذا كان العمر سيمتد بى حتى أشهد لها انهيارًا كانهيار سابقتيها، وهو مع ذلك انهيار حتمى مؤكد.

ويمكن تلخيص الظاهرة، فى عبارة واحدة هو الحنين إلى الماضى، وإلى أمجاد وهمية لحضارة قديمة، فى ماضى الأمة، التى تسود فيها الظاهرة، وهو حنين ناجم عن متاعب وتحديات حضارية تشعر بها تلك الأمة، فتسعى معها إلى السباحة ضد تيار جارف، ظانة أنها بإحياء بعض مظاهر، وعناصر تلك الحضارة السالفة، يمكنها أن تستعيد أمجادًا تنسبها إلى ماضيها السعيد، شديد الاختلاف عن حاضرها التعس، وإلى سلفها الصالح التى تحسب أنه كان يتمتع بكل ما يفتقر إليه المعاصرون من أبنائها من القوة والشهامة!

فمع بزوغ الحركة النازية فى ألمانيا، القائلة بتفوق الجنس الآرى على غيره، تبنى أنصارها الدعوة إلى إحياء «التيوتونية البدائية»، ذاهبين إلى أن اللغة التيوتونية، كانت لغة جنس أشقر الشعر، أزرق العينين، موطنه شمالى أوروبا، وأن الطبيعة حبت تلك المنطقة، وذلك الجنس، وتلك اللغة من سمات النبل، مما لا يشاركها فيها غيرها، بحيث يمكن القول فى ثقة بأنها فضلت ذلك الجنس على العالمين.

وإذا نظرنا إلى خلفية تبنى النازيين لتلك الدعوة، رأينا أن ألمانيا وقد خرجت من الحرب العالمية الأولى مهزومة، مكسورة الجناح، واقتطع منها أغنى أقاليمها، وفرضت عليها معاهدة فرساى أثقل الشروط، وأصاب اقتصادها الركود والتضخم، وعمالها البطالة، ومثقفيها الحيرة والبلبلة، وشعبها الإحساس بالمذلة والضياع، شاع فيها الاعتقاد بأن المسئولية عن هذا الانهيار، تقع على عاتق الحضارة الحديثة، الرخوة الآيلة إلى زوال، وعلى إقبال الألمان على التنهل فى سذاجة من تلك الحضارة بمنابعها المسمومة، فكان أن خرج مفكرو النازية بفكرة، أن المخرج الوحيد من هذه المعضلة، هو عودة هذه الأمة إلى ماضيها التاريخى، واستلهام تراثها المجيد، الذى وضعه أجدادهم، ممن أقامت قبائلهم وسط غابات ألمانيا جنة الله فى أرضه، بفضل أخلاقيات التيوتونية البدائية، وتضامن أفراد القبائل فيما بينهم، والطاعة العمياء لإرادة زعمائهم.

هى إذن نفس الغريزة الحيوانية، التى تدفع صغار حيوان الكنغر إلى القفز إلى أحضان الأم، والاحتماء داخل كيسها، كلما أزعجهم التفاف الآدميين حولهم، وما أحسبنى فى حاجة إلى أن أذكر ما آلت إليه هذه التجربة النازية من دمار!!

 

كذلك شهدت بريطانيا، منذ اعتلاء جورج السادس العرش، وخلال سنوات العقد الأول من عهد إليزابيث الثانية، ظاهرة عودة الشعب فى بريطانيا إلى تمجيد التاج البريطانى، وازدهار شعبية العائلة المالكة، وحرص الصحف على تتبع كل صغيرة وكبيرة من أخبارها، واهتمام الشعب البالغ بهذه الأخبار، واحتشاده على جانبى الشوارع، التى تمر بها المواكب الملكية، للهتاف والتصفيق، والتعبير عن مشاعر الولاء، والحب لهذا الملك، أو هذه الملكة، أو هذا الأمير، وهى شعبية لم تعرفها العائلة المالكة البريطانية، فى أى وقت منذ وفاة الملكة إليزابيث الأولى!!

وتفسير ظاهرة الالتفاف حول التاج، وتعليق آمال البريطانيين، هو إحساس الشعب بأن مجد بريطانيا، كان فى طريقه إلى الانحسار، وأنها بدأت تتخلى عن مكانتها العالمية، فى معترك السياسة الدولية، للولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعدما تبين أن الإمبراطورية البريطانية القديمة، فى سبيلها إلى الزوال، وقد تسبب هذا الإحساس، فى تدهور شعبية البرلمان، فى أواخر الثلاثينيات، وإحياء شعبية وسمعة التاج فى عصر بات البريطانيون فى زمن أفول نجم بلادهم يتطلعون فى حينه إليه!!

غير أن هذه الظاهرة لم تدم كثيراً، فقد تمكن البريطانيون من تقبل الوضع الجديد، وتصالحوا مع فكرة أن تتحول بريطانيا إلى المركز الثانى، أو الثالث فى عالم اليوم، وأفاقوا على حقيقة أنه كان من الغباء والسفه، الظن أنهم بإحياء شعبية التاج فى العصر الحديث، سيعيدون أمجاد بلادهم، من عصر نهضتها وملوكها الأقوياء، وسلفها الصالح، فكان أن حدث ما شهدناه خلال الحقبة الأخيرة، من رد فعل قوى فى الاتجاه المضاد، وتكاتف وسائل الإعلام البريطانية من أجل تشويه سمعة أفراد العائلة المالكة، وتعداد فضائحها وانحرافاتها، وهو تشويه يشارك الشعب البريطانى نفسه فيه، ربما من قبيل التكفير عن تمجيد زائف فى الماضى، وشعبية عظيمة لم يكن لها فى الواقع ما يبررها!!

 

الحلم الجميل

وإذا كنا لا نكاد اليوم نسمع ألمانياً يجرؤ على التحدث عن أمجاد التيوتونية السالفة، أو نرى بريطانيًا يطيق الاستماع إلى حديث عاطفى عن العائلة الملكية، فإننا بتنا اليوم نشهد فى عالمنا الإسلامى، نشأة ظاهرة مماثلة للظاهرتين المندثرتين، ولا أعلم بالدقة كم سيمتد بها الأجل..؟!

هذه الظاهرة تتمثل فى جماعات تنحو إلى تمجيد الماضى البعيد من تاريخ الدولة الإسلامية، وتسعى إلى إحياء عصرها الذهبى، وذلك بمحاولة تحويل غير المسلمين إلى مواطنين من الدرجة الثالثة أو الرابعة، وإعادتهم إلى حظيرة أهل الذمة، ومطالبتهم بدفع الجزية، إلى غير ذلك من الانتقاصات التى تنتهى بمنعهم من المشاركة فى الحياة السياسية، ومن الإدلاء بشهادتهم أمام المحاكم، وعدم توليهم أية مناصب عليا فى البلاد، وهم يمنعون غير المسلمين من بناء كنائس يؤدون فيها شعائر دينهم، وتمتد أيديهم إلى حرق ما بُنى من كنائس، بل ومنعها الأقباط من الصلاة على ميت، فلم يجدوا مفرًا من أداء الصلاة عليه على قارعة الطريق!

هى مجموعة من الشباب يحلمون بالعودة إلى حلمهم الجميل، عصر الخلافة العثمانية البغيض الذى ذاق فيه المصريون، وتحت ستار التأسلم العثمانى أبشع أنواع الاضطهاد، إنه العصر الذى يسميه المتخصصون فى علم التاريخ عصر الانحطاط!!

هى مجموعة متفرقة فى المدن والقرى وفى النجوع، تطالب فى داخلها بأن تكون الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى لكل القوانين، وتستند فى أفكارها إلى كتابات ابن تيمية، مجموعة تسعى إلى مجابهة المجتمع والانخراط فى الصراع السياسى مستخدمة فى ذلك كل صور العنف، والعنف هو جين من جينات تركيبة هؤلاء، وهو جزء لا يتجزأ من تكوينهم الفكرى، وهو وسيلتهم الوحيدة لتحقيق أهدافها.

 

العصر الحديث

إننى ألاحظ ثمة أمرين يدفعان هؤلاء إلى الاستغراق فى الحنين إلى ماضٍ استأصلوا من معالمه كل ما هو مؤلم، وأبقوا منه على كل ما هو مبهج، وكلا الأمرين يتمثل فى عجز، سواء عجز عن تبوؤ مكانة يرضون بها فى إطار التنظيم الاجتماعى والاقتصادى السائد، أو عجز عن مواءمة تعاليم الإسلام مع معالم العصر الحديث.

إننى ألاحظ ثورة على الحداثة، أشاهد تنفيساً مَرضياً عن مشاعر العقم، وتفضيلاً مؤسفاً للهروب إلى الماضى على بذل الجهود من أجل التأقلم والتكيف والتغيير. أشاهد حضارة مهزومة تطل برأسها من قوقعتها للحاق بالعصر الحديث، وإذ بها ترتد بسرعة إلى القوقعة، مفضلة البقاء فيها على مواجهة المصاعب والتحديات، إنها مجموعة توهم نفسها بأن وجودها فى القوقعة ناجم عن كراهية منهم لمظاهر الحضارة الحديثة، وعن فكر حقوق الإنسان، وعن حق الاعتقاد، وحق مباشرة الشعائر الدينية، والحق فى تولى الوظائف العامة، إنهم يتعلقون بماضٍ مجيد، وعن التزام بتعاليم دين، هو من هذا العجز والجبن برىء!!

هم يتحدثون عن الهوية الإسلامية، ولكن ماذا عن الهوية المصرية، وماذا عن مصر كوطن متعدد الديانات، وهو تعدد يملى علينا، بحكم المواطنة، وبحكم الدستور، وبحكم المواثيق، أن نحترم إخوتنا فى الوطن، ليس كأقلية، أو ذميين، وإنما كشركاء فى وطن، فالكل يجب أن يعرف أن الانتماء الحقيقى لهذا البلد، هو الانتماء لمصر، ومصر تحترم الديانات وتجلّها، ولا تُعد غير المسلمين أسرى حرب ينطبق عليهم المثل القائل «اللى عاجبه الكحل يتكحل، واللى مش عجباه البلد يرحل»!!

 

وضع قبيح

من المؤكد إذن أن الشعوب تلجأ وقت المحن والأزمات إلى إيجاد صلة بماض هو فى زعمهم مشرق، أو على الأقل آمن، هادئ، مستقر، ولا أنكر أن الانغماس فى الماضى يخفف من حدة الضغط العصبى -كما يخفف إخفاء النعامة لرأسها فى الرمال، من حدة توترها، كما تلهى المخدرات متعاطيها عن الواقع، ويريحنا ولو لساعات من التفكير فى حاضر دائب التغيير وفى مستقبل لا نطمئن إلى الصورة التى سيكون عليها.

غير أنه من المؤكد أيضًا فى رأيى أن ظاهرة الحنين إلى الماضى، إلى الدولة الإسلامية، إلى عصر الخلافة، ينطوى على مخاطر هائلة أخفّها الميل إلى تزييف التاريخ، وانعدام الأمانة فى تسجيل أحداثه، واتخاذ موقف من شخصياته هو أشبه شىء بعبادة الأسلاف التى عرفها أهل العصور السحيقة، وإلى الغضب والثورة على كل من تسول له نفسه أن يصور الماضى والأسلاف صورة واقعية لا رتوش فيها، أما الخطر الأعظم فيكمن فى أن الاستغراق فى الماضى والحنين إليه يشل من قدرتنا على مواجهة الحياة المعاصرة، والتصدى لمشكلاتها بمحاولة نشطة لإيجاد الحلول، والإعداد للمستقبل، ويعطل من إمكانية الخلق والإبداع.

إن الحاضر هو الزمن الوحيد الذى نملك أن نعيش فيه، ولا بد للواقع من أن يفرض نفسه فى وقت ما على من شاء مواجهته وعلى من لم يشأ.. وإنما تتحقق المأساة، وتقع الصدمة حين يتبدد الوهم، ويزول تأثير المخدر بالإفاقة.. فإنه يكون بوسعنا إصلاح الواقع إلا متى أدركنا زيف تقديس الماضى الميت ومثله وأفكاره، ومتى فهمنا أن تقديس الماضى لمجرد أنه ماضٍ ينطوى على جهل، وأنه أشبه بالسراب الذى لا يعكس غير أوهامنا وأحلام يقظتنا، ومتى تصدينا لفضح استغلال الجماعات للتعطش الزائد إليه!!

ومن هنا اسمحوا لى بأن أقول إنه ليس للمريض أن يتوقع علاجًا حقيقيًا من الطبيب، متى ما أخفى عنه الحقائق الأساسية المتصلة بمرضه، وبتاريخه وأعراضه، وكذلك فإنه لا أمل فى تصدينا لعلاج الأحداث الطائفية

أو فى تحسين وضع، ما دمنا سنظل إلى أبد الآبدين نكرر ما اعتدنا أن نكرره من تعابير مبتذلة بالية، لمجرد طمأنة الخواطر، وإراحة الضمائر، وغرس الوهم فى الأذهان بأن الأمور على خير ما يرام، لولا حفنة من المتعصبين، ولولا دسائس بعض المخابرات الأجنبية، وأنه لولا هذه وتلك لخلت العلاقات الطائفية من كل شائبة!!

أقول إن لا أمل فى علاج وضع، ما دمنا نخلط الأمانى بالواقع، وننسب الخطب كله إلى خطط تحاك فى الخارج، أو إلى نويا خبيثة لدى بعض العناصر الفاسدة فى الداخل، ثم يصرح الممثل الشرعى لبيت العائلة بأنه ليست ثمة مشكلة، وأن الأمر لا يتعدى بعض الحوادث الفردية، وبعض الحوادث العارضة من المناوشات الدامية، وبعض الحرائق المؤسفة، وبعض المزايدات التى يأباها الضمير المصرى، وإنما يكمن الحل الحقيقى فى رأيى فى مواجهة واضحة صريحة لوضع قبيح!!

 

الوحدة الوطنية

دعونى أقل إن ثمة خطرًا حقيقيًا يهدد الوحدة الوطنية فى بلدى، فالتطرف الدينى الذى يهدد بنسف الوحدة فى ازدياد، وكذا الإحساس لدى عدد غفير من المسلمين المصريين بأن الانتماء إلى العالم الإسلامى يجُب الانتماء إلى مصر، والشعور لدى عدد متزايد من الأقباط بأن الأقباط قد يضطرون فى مستقبل غير بعيد إلى الهجرة خارج مصر، وأن تدفق التيار الإسلامى سيدفع الأقباط إلى تعصب طائفى لا يقل فى رجعيته عن طائفية الخصوم!!

وأقولها هنا صراحة إن الخطوة الإيجابية، فى سبيل التعايش الدينى، هو الاعتراف بداءة بأن كلاً من الأديان يرى لنفسه الحق فى أن يعم، وأن يسود على حساب الأديان الأخرى، وأن فكرة التعايش، والمواطنة والاحترام المتبادل هى من إنجازات العقل البشرى، ومن أعظم ثمار الحصيلة البشرية من الخبرة التاريخية الطويلة.

فالأديان بطبيعتها تتنافس فيما بينها على أرواح البشر، وهى بالضرورة غيورة متحيزة، شأن مشاعر القبلية والوطنية، ولا يكمن خطأ المتعصب فى اعتقاده أن دينه هو أفضل الأديان، فهو أمر طبيعى ومشروع، ولو لم ير المرء لدينه الحق فى الشمولية والعالمية، ما كان هذا دينه، وإنما يكون خطؤه فى عجزه المطلق عن إدراك ما يدور بين الله وروح المؤمن من اتباع الديانات الأخرى، كذلك يكمن خطأ المتعصب فى عزل نفسه عن الجوانب الإيجابية فى الأديان الأخرى، واتخاذه لمعتقده، ووجهة نظره مقياسًا للحكم على معتقدات الآخرين.

ومن هنا تأتى أهمية التلاقى، فما تلاقى الأديان غير مظهر واجب من المظاهر المتزايدة لتلاقى الحضارات والشعوب فى هذا العصر الذى نعيش فيه، ولا يعنى هذا مطالبتى أتباع أى دين باطراح أية حقيقة جوهرية فيه، وإنما يعنى تجاوزنا الاستماع فى صبر، والجدال فى أدب، إلى التفتح الذى يمكننا من الاستفادة والتعلم من الآخرين، فالكل مطالب بأن يدرك أن إقدام المرء على تعميق فهمه لدين الآخرين، يعنى تعميق فهمه لدينه هو، وأن المتدين الحق ليس مَن كان بوسعه تفنيد الأديان الأخرى، والسخرية من معتقدات أهلها، إنما المتدين الحق هو من كان بوسعه أن يميز الحقائق الواردة فى كل الديانات.

علينا أن نضع الوحدة الوطنية فى مقدمة مشاكلنا، فهى التى تحتل الأولوية فى هموم الساعة، ولأنها فى النهج الإسلامى مما لا يفرط فيه بأى حال، وأستدل على ذلك من قصة موسى وأخيه هارون التى سجلها القرآن الكريم فى سورة طه، إذ غاب موسى عن قومه، وحل مكانه هارون، فاتجه الناس إلى عبادة عجل صنعه لهم السامرى، وفوجئ النبى موسى، بما جرى بعد عودته، فاتجه إلى أخيه بالتأنيب والتعنيف فكان رده «إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرائيل ولم ترقب قولى».

ألم تلاحظوا معى سكوت موسى على احتجاج أخيه بهذا العذر، ما يدل على إقراره وموافقته، إذ قبل ذلك الشرك بعبادة الله -مؤقتاً- حفاظاً على وحدة القوم، وعدم انفراطهم، هل فهمنا إلى أى مدى ذهب القرآن فى التثبت بفكرة الوحدة، حتى يهدن إلى جانبها مثل ذلك الزيغ الطارئ فى الاعتقاد.

فمن هنا يجب أن تحتل الوحدة مكانها الرفيع فى فكر المسلم الأصيل، ومن هنا أيضًا كان المساس بفكرة الوحدة أو تجريحها، يعد من الكبائر التى ينبغى تجنبها.

اسمحوا لى بأن أقول إن مسألة المواطنة من الدرجة الثانية أو الثالثة لغير المسلمين لا تقوم على أساس يذكر فى الفكر الإسلامى، وأن اعتبارهم أهل كتاب فى السياق القرآنى يضعهم مع المسلمين على قاعدة واحدة من المسلمين، بحسبان أن المسلمين هم أيضًا أهل كتاب، فضلًا عن أن مبدأ «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» استقر عميقاً فى الضمير المسلم منذ أكثر من 14 قرناً، ولم يطلق مداهنة لأقليات ولا مجاملة لأية دولة عظمى!

أما مسألتا الذمة والجزية -وكانتا قائمتين قبل الإسلام بالمناسبة- فهما من قبيل الصياغات التاريخية والقانونية التى ارتبطت بظروف الحماية والفتح، التى لم تعد قائمة الآن، وإذا كان هناك من لا يزال يردد تلك المقولات فى وقتنا الحالى، فإن مَن منحه الله قدراً محسوسًا من الحس يستطيع أن يدرك بوضوح أن تلك أصوات نشاز، تشكل استثناء على القاعدة، وخروجاً على الإجماع، وإذا انسقنا وراء الأصوات الناشزة وتجاهلنا كل ما عداها، فإن خطانا لن تفارق طريق الندامة، ولن تبلغ بحال بر الأمان والسلامة.

 

الدولة المدنية

هم يريدون دولة دينية، والتعصب هو الذى تقوم عليه دعاوى هذه الدولة التى نسمع عنها فى هذا الزمان، والسبب فى ذلك يرجع إلى أن الدولة الدينية دولة تفرق بين أبنائها على أساس من الدين، فتمايز المسلم عن المسيحى فى حق المواطنة، والسنى فوق الشيعى، إذا كانت سنية، أو الشيعى فوق السنى إذا كانت دولة شيعية!!

إلا أن الدولة المدنية التى نص عليها الدستور، هى دولة لا تميز بين أبنائها على أساس دين أو عرق، وتنظم أحوالها بالعلم، وتؤسس مستقبلها بالحوار بين طوائفها، الدولة المدنية هى التى تستمد قيمتها من حق المشاركة المكفول للجميع، ومن حق احترام حق الاختلاف، والاعتراف بوجود الغير وحق الآخر فى الوجود والمشاركة على السواء، ولا تنتقص هذه الدولة من المخالف أو المغاير أو الآخر لأنه مخالف لها أو مغاير لاتجاهها أو يتباعد عما تراه، إنها ترى فى الآخر، والمغاير، والمخالف، البعد المكمل لحضورها، والمعنى المتمم لديمقراطيتها، والأصل المؤسس لمبدأ الحب والمودة الذى تنطوى عليه الدولة المدنية، لا فرق بين مواطن ومواطن إلا حسب ما ينص عليه العقد الاجتماعى الذى يقوم على التسوية بين المواطنين جميعاً، والذى يصوغه المواطنون جميعاً.

حافظوا على وطن تجرى محاولة تمزيقه طائفياً، والإرهاب يروع الجميع، وقنابله تنفجر فى الكنائس، وفى الجوامع، وفى الميادين، ورصاصهم يطال الأبرياء، وينتقى رجال القضاء والأمن والأقباط، وفتاواهم تبرر القتل، وتبيحه، وتبرر حرق الكنائس، ومنع الأقباط من أداء شعائر دينهم، والإرهاب الذى نراه فى قرى المنيا هو ثمرة مريرة لمناخ شديد المرارة وشديد الكآبة، مناخ عام صنعه تعليم متخلف، وفتح له ألف باب كى يطل منه، فيفسد فى الناس أفكارهم، ومعتقداتهم ووطنيتهم، والآن وبعد أن أصبح الإرهاب والتطرف والفتنة تناوش مصرية المصريين، بل وتطارد فيهم روح التوحد الوطنى، وتصيب وطنيتهم بالصدأن فإن الذى أدعو إليه هو أن نرفع رأسنا من كومة الرمال التى تحجب الرؤية، رؤية الواقع المعاش فى قرى المنيا، وأن نوفر لدراسة الموقف فريق عمل أمنياً وسياسياً، ومخابراتياً يتولى تقليب الأمر من مختلف جوانبه، ثم يطرح صيغة مشروعة وواضحة للحل.