عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

16 سبتمبر .. يوم أن أعدم شيخ المجاهدين عمر المختار

عمر المختار
عمر المختار

كتبت - أسماء محمود:


في مشهد مهيب، امتلأت الساحة ب20 ألف من الأهالي، في ترقب بدت معالمه على الوجوه، وانتظار لمعجزة إلهية تحيل نهاية المشهد من الحزن إلى بشرى تهز القلوب، وتحت أصوات الطائرات المدوي، دخل عليهم مكبلا بالأغلال في يده وقدميه، بثبات عميق أذهل الحضور، فكان هذا استعداد عمر المختار لتنفيذ حكم الإعدام به.
في 16 سبتمبر 1931، شهدت ليبيا يوما مخلدا في تاريخها، وبقدر ما حفر بأحرف من نور، بقدر ما حزنت فيه، على مصير أشهر مقاتليها، بالإعدام شنقا، فهو أسد الصحراء، وأسد الجبل الأخضر، وشيخ الشهداء، وشيخ المجاهدين، ظل يحارب الاستعمار الايطالي على ليبيا لمدة 20 عاما، بدأها وهو في ال53 من عمره، وأنهاها في ال73.
لم تكن نشأته مختلفة، إلا أنه كان مختلفا، فهو عاش يتيم الأب، ولكن ترك الأب الوصية التي تحفظ نجله، بحفظه القرآن ودراسة التفسير، ونفذت الوصية على أكمل وجه، وحفظه المختار ودرس الفقه والحديث والتفسير، بينما لم يكتف هو بذلك، حتى صار خبيرا في كل ما يخص الصحراء، فأصبح خبيرا في دروبها، والنباتات التي تزرع فيها، والأمراض التي تصيب الحيوانات فيها وكيفية علاجها، وفي كيفية استخدام الأسلحة الموجودة، وأدرك الأنساب التي تربط القبائل ببعضها، وغيرها من الثقافة التي جعلت شخصيته مميزة منذ صغره.
قيل في وصف عمر المختار، في أحد كتب التاريخ الليبية "كان متوسط القامة يميل إلى الطول قليلا، ولم يكن بالبدين الممتلئ أو النحيف الفارغ، أجشّ الصوت بدوي اللهجة، رصين المنطق، صريح العبارة، لا يمل حديثه، متزن في كلامه، كثيف اللحية وقد أرسلها منذ صغره، تبدو عليه صفات الوقار والجدية في العمل، والتعقل في الكلام والثبات عند المبدأ وقد أخذت هذه الصفات تتقدّم معه بتقدّم السن"
فكانت تلك الصفات هي العامل المساعد لما يمتلك من ثقافة، لتجعله زعيما وقائدا منذ صغره، فاختاره الشيخ محمد المهدي السنوسي، شيخا ل"زاوية القصور" بالجبل الأخضر سنة 1897، وفي سنة 1906، صار عمر المختار قائدا لمعسكرات الزاوية السنوسية في الجبل الأخضر، استعدادا لمواجهة خطر الاستعمار، إذ بدأت تلوح نُذُر بأطماع استعمارية في ليبيا.
تميز الشجاعة
سرد الأديب الليبي، محمد الطيب بن إدريس الأشهب، في كتابه "عمر المختار"، وقد كان معاصرا له، قصة عن شجاعته التي لا مثيل لها، قائلا: "كنا في قافلة، وما كدنا نقترب من مضيق حتى رأينا أسدا يتطلع إلينا، فقال أحدنا وقد ارتعشت فرائصه خوفا: أنا مستعد أن أتنازل عن بعير من بعيري ولا تحاولوا مشاكسة الأسد".
ويضيف الأشهب: "وانبرى السيد عمر المختار ببندقيته فرمى الأسد بالرصاصة الأولى فأصابته، ولكن في غير مقتل، واندفع الأسد يتهادى نحونا فرماه بأخرى صرعته، وارتبكنا جميعا خوفا.. وأصر السيد عمر على أن يسلخ جلده ليراه غيرنا من أصحاب القوافل، فكان له ما أراد".

في 29 سبتمبر 1911، كان عمر المختار على موعده مع من دبرهم من مقاومة شعبية ليبية، في انتظار القوات الاستعمارية الإيطالية على الساحل الليبي، ولكنهم بالفعل استطاعوا فرض سيطرتهم، ولعلمه بأنه لا قبل له بمواجهتهم مباشرة، فكان يتبع معهم أسلوب الكر والفر، جاعلا أغلب مواجهاته في الجبل الأخضر، لمعرفته الكاملة له، وبالفعل استطاع أن يكبدهم فيه هزائم كبيرة، وأودى بحياة مئات القتلى.
أشهر المعارك
واجه عمر المختار الجنود الإيطاليين في معارك لا حصر لها، أشهرها معركة "هامة" التي نشبت في 16 مايو عام 1913، واستمرت يومين، وانتهت بمقتل 70 جندي إيطالي وإصابة نحو 400 آخرين.
وفي 6 أكتوبر من العام نفسه، كانت معركة "بو شمال" في منطقة عين مارة، وفي شهر فبراير عام 1914 كانت معارك أم شخنب وشلظيمة والزويتينة، وحلت أشهر المعارك في 1927 "بئر الغبي"، أما المعركة التي كانت بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير، للاحتلال الإيطالي، كانت معركة "أم شافتير"، إذ قرر الجيش الإيطالي حينها حشد قوات بكاملها لوقف عمر المختار، بعد الخسائر المهولة التي تكبدوها بها.

حاول الإيطاليون التفاوض مع عمر المختار، وحاولوا إغراءه في مرات عديدة لكنهم فشلوا، وبعد أن تأكد أنه لا قبب للتفاوض السياسي لحل قضية الاستعمار، ظل ثابتا على محاربته، مثبتا المجاهدين والقبائل بخطبه الرنانة، يبث فيهم روح الجهاد والمثابرة، ويبشرهم بقرب الخلاص.

غراتسياني
أوكل إليه وزير المستعمرات الإيطالي، تولي مهمة تسوية الأوضاع في ليبيا، والقبض على عمر المختار وإنهاء أسطورته، ولم يدخر جهدا في ذلك، فشرع في اتخاذ إجراءات تعسفية، وتبعها أعمال وحشية،  فأنشأ "المحكمة الطائرة"، وهي محكمة بكامل أجهزتها تقطع البلاد على متون الطائرات، وتحكم على الأهالي بالموت ومصادرة الأملاك لأقل شبهة وتمنحها للمرتزقة الفاشيّين.
كما أنشأ معسكرات الاعتقال الجماعيَّة في الصحراء، ولم يُراع في ذلك سنّ المعتقلين ولا جنسهم ولا حالتهم الصحيَّة، وأمر بإحراق الكثير من القرى المتعاونة مع الثوَّار، فدُمِّرت المنازل وأُحرقت المحاصيل الزراعيَّة، وأُهلكت الحيوانات، وفي النهاية، أعلن عن جائزة قدرها 200,000 فرنك لقاء جلب عمر المختار سواءً حياً أو ميتاً.

من أشهر ما قال غراتسياني عن عمر المختار، أنه ذات يوم، في أكتوبر 1930، اشتبك المجاهدون مع القوات الإيطالية، وعثرت القوات على حصان أسد الصحراء ونظارته، فقال متوعدًا: "لقد أخذنا اليوم نظارات المختار وغدًا نأتي برأسه".
يوم القبض على شيخ المجاهدين
في 11 سبتمبر من عام 1931، توجَّه عمر المختار بصحبة عدد صغير من رفاقه، لزيارة ضريح الصحابي رويفع بن ثابت بمدينة البيضاء، وشاهدتهم وحدة استطلاع إيطاليَّة، وأبلغت حامية قرية السلنطة، ويقول المجاهد التواتي عبد الجليل المنفي، الذي كان شاهدًا على اللحظة التي أُسر فيها عمر المختار من قبل الجيش الإيطالي: "كنَّا غرب منطقة سلنطة، هاجمنا الأعداء الخيَّالة وقُتل حصان سيدي عمر المختار، فقدَّم له ابن اخيه المجاهد حمد محمد المختار حصانه وعندما همَّ بركوبه قُتل أيضًا وهجم الأعداء عليه، ورآه أحد المجندين العرب وهو مجاهد سابق، فذُهل واختلط عليه الأمر وعزَّ عليه أن يُقبض على عمر المختار فقال: "يا سيدي عمر.. يا سيدي عمر!!" فعرفه الأعداء وقبضوا عليه.
وتعمدت القوات الإيطالية إشاعة نبأ القبض على المختار، كي يفت في عضد المجاهدين، ويثبط من عزيمتهم، ويخفض روحهم المعنوية في التصدي للاستعمار.
مقابلة نارية مع غراتسياني
بدأ غراتسياني باستجواب شيخ المجاهدين، الذي ظل يحاربهم طيلة 20 عاما، مدافعا عن أرضه، وكبدهم فيها خسائر لا حصر لها، ودائما ما كان على عهده، فلم ينكر تهمة قط، بل قال بكل ثقة وشجاعة أنه حارب الاحتلال الطلياني، وأنه يتعمد قتل جنودهم وضباطهم، وأنهم قوى مغتصبة، ولابد أن يتركوا ليبيا لأهلها، ولا بديل للحرية.
وقال غراتسايني في مذكراته عن هذه المقابلة "وعندما حضر أمام مكتبي تهيَّأ لي أنني أرى فيه شخصية آلاف المُرابطين، الذين التقيت بهم أثناء قيامي بالحروب الصحراويَّة، يداه مُكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التي أُصيب بها أثناء المعركة، وكان وجهه مضغوطًا لأنه كان مُغطيًا رأسه بالجرد، ويجرّ نفسه بصعوبة نظرًا لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالإجمال يُخيل لي أنَّ الذي يقف أمامي رجلٌ ليس كالرجال: له منظره وهيبته رغم أنَّه يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقفٌ أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوتٍ هادئ وواضح"
وقال عن نهاية المقابلة بعد أن أمر بإرجاعه إلى السجن "  لقد خرج من مكتبي كما دخل عليّ وأنا أنظر إليه بكل إعجاب وتقدير".
محاكمة صورية
نُظمت محاكمة لعمر المختار في 15 سبتمبر 1931، ودافع فيها عن نفسه واعترف بأنه ظل يحارب الجنود الإيطاليين لأكثر من 20 عاما، ومن أشهر ما سجلته كتب التاريخ عنه، مخاطبته لخصمه، الجنرال غراتسياني، قائلا: نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت".
وفي موقف نادر، خرج محامي عمر المختار، الذي عينته محكمة المحتل، عن النص الذي كان عليه أن يدافع به عنه، فأخذ يؤكد أنهم دولة استعمارية، وعليهم ترك البلاد، وأن المختار مجاهد وشجاع، لم يرتكب خطأ، بينما كان يريد استرداد أرضه، وطالب بأن يكون سجينا مدى الحياة بدلا من الإعدام، حتى أنه أبى الحضور لسماع قرار المحكمة، لمعرفته بالحكم مسبقا.
وبعد سماع المختار لحكم إعدامه، لم يقل سوى جملة واحدة "إنَّ الحكم إلّا لله.. لا لحكمكم المُزيَّف.. إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون".
وبالفعل، شُنق عمر المختار، في التاسعة صباحا من يوم 16 سبتمبر 1931، لتسدل الستار على أسطورة شيخ الصحراء وشيخ المجاهدين وأسد الصحراء.