رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

الموت ورقاب الجبابرة

مازلنا مع كتاب‮ »‬التبر المسبوك في نصيحة الملوك‮« ‬لحجة الإسلام أبوحامد الغزالي،‮ ‬ذلك الكتاب الرائق الذي جمع فيه الغزالي قدرا كبيرا من نصائح الملوك والسلاطين،‮ ‬والتي جاءت علي لسانه،‮ ‬أو علي لسان‮ ‬غيره من العلماء الذين خالطوا الحكام والولاة في مختلف العصور ونصحوا لهم‮.‬

يقول الغزالي‮: ‬روي أبوهريرة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال‮: »‬يا أبا هريرة أتريد أن أريك الدنيا‮.. ‬قلت‮: ‬نعم يا رسول الله‮.. ‬فأخذ بيدي وانطلق حتي وقف بي علي مزبلة فيها رؤوس الآدميين وبقايا عظام نخرة وخرق قد تمزقت وتلوثت بنجاسات الآدميين‮.. ‬فقال‮: ‬يا أبا هريرة هذه الرؤوس التي تراها كانت مثل رؤوسكم مملوءة من الحرص والاجتهاد علي جمع الدنيا‮.. ‬كانوا يرجون من طول الأعمار ما ترجون،‮ ‬وكانوا يجدون في جمع المال وعمارة الدنيا كما تجدون،‮ ‬فاليوم قد تغيرت عظامهم وتلاشت أجسامهم كما تري،‮ ‬وهذه الخرق كانت أثوابهم التي كانوا يتزينون بها وقت الرعونة والتجمل والتزين،‮ ‬قد ألقتها الريح في النجاسات،‮ ‬وهذه النجاسات كانت أطعمتهم اللذيذة التي كانوا يحتالون في تحصيلها وينهبها بعضهم من بعض،‮ ‬قد ألقوها عنهم بهذه الفضيحة التي لا يقربها أحد من نتنها،‮ ‬فهذه جملة أحوال الدنيا كما تشاهد وتري،‮ ‬فمن أراد أن يبكي علي الدنيا فليبكِ‮ ‬فإنها موضع البكاء‮.. ‬قال أبو هريرة‮.. ‬فبكي جملة الحاضرين‮«.‬

وقال يزيد الرقاشي‮: ‬كان في زمن بني إسرائيل جبار من الجبابرة،‮ ‬وكان في بعض الأيام جالساً‮ ‬علي سرير ملكه،‮ ‬فرأي رجلاً‮ ‬قد دخل من باب الدار،‮ ‬ذا صورة منكرة،‮ ‬وهيئة هائلة،‮ ‬فلشدة خوفه من هجومه وهيبة قدومه وثب في وجهه وقال‮: ‬من أنت أيها الرجل ومن أمرك بالدخول إلي داري‮.. ‬فقال‮: ‬صاحب الدار وأنا الذي لا يحجبني حاجب،‮ ‬ولا أحتاج في دخولي علي ملك إلي إذن،‮ ‬ولا أرهب من سياسة سلطان،‮ ‬ولا يفزعني جبار ولا لأحد من قبضتي فرار‮.‬

فلما سمع هذا الكلام خر علي وجهه،‮ ‬ووقعت الرعدة في جسده فقال له‮: ‬أنت ملك الموت‮.. ‬قال‮: ‬نعم‮.‬

قال‮: ‬أقسم بالله عليك ألا ما أمهلتني يوماً‮ ‬واحداً‮ ‬لأتوب من ذنبي،‮ ‬وأطلب العذر من ربي،‮ ‬وأرد الأموال التي أودعتها خزانتي،‮ ‬فلا أتحمل مشقة عذابها في الآخرة‮.‬

فقال‮: ‬كيف أمهلك وأيام عمرك محسوبة،‮ ‬وأوقاته مثبوتة مكتوبة‮.. ‬فقال‮:‬‭ ‬أمهلني ساعة‮.‬

فقال‮: ‬إن الساعات في الحساب،‮ ‬وقد عبرت،‮ ‬وأنت‮ ‬غافل،‮ ‬وقد استوفيت أنفاسك،‮ ‬ولم يبق لك نفس واحد‮.‬

فقال‮: ‬من يكون عندي إذا نقلتني إلي لحدي‮.. ‬قال‮: ‬لا يكون عندك سوي عملك‮.. ‬فقال‮: ‬مالي عمل‮.‬

قال‮: ‬ثم قبض روحه فخر من سريره ووقع،‮ ‬وعلا الضجيج من أجل مملكته وارتفع،‮ ‬ولو علموا ما يصير إليه من سخط ربه لكان بكاؤهم أكثر وعويلهم أوفر‮.‬

وروي أنه كان ملك كثير المال،‮ ‬قد جمع مالاً‮ ‬عظيماً‮ ‬من كل نوع خلقه الله تعالي من متاع الدنيا،‮ ‬ليرفّه نفسه ويتفرغ‮ ‬لأكل ما جمعه،‮ ‬فجمع نعماً‮ ‬طائلة،‮ ‬وبني قصراً‮ ‬عالياً‮ ‬مرتفعاً‮ ‬سامياً،‮ ‬يصلح للملوك والأمراء والأكابر والعظماء،‮ ‬وركّب عليه بابين

محكمين،‮ ‬وأقام عليه الغلمان الأجلاد والحرسة والأجناد والبوابين كما أراد‮.‬

وأمر ببعض الأيام أن يصطنع له من أطيب الطعام،‮ ‬وجمع أهل مملكته وحشمه وأصحابه وخدمه،‮ ‬ليأكلوا عنده وينالوا رفده،‮ ‬وجلس علي سرير مملكته واتكأ عل وسادته وقال‮: ‬يا نفس قد جمعت نعم الدنيا بأسرها،‮ ‬فالآن أفرغي بالك وكلي هذه النعم مهنأة بالعمر الطويل والحظ الجزيل‮.‬

فلم يفرغ‮ ‬مما حدث به نفسه حتي أتي رجل من ظاهر القصر عليه ثياب رثة خلقة ومخلاته في عنقه معلقة علي هيئة سائل يسأل الطعام،‮ ‬فجاء وطرق الباب طرقة عظيمة هائلة بحيث تزعزع القصر وتزلزل،‮ ‬وخاف الغلمان ووثبوا إلي الباب وصاحوا بالطارق وقالوا‮: ‬يا ضعيف ما هذا الحرص وسوء الأدب اصبر حتي نأكل ونطعمك مما يفضل‮.. ‬فقال لهم‮: ‬قولوا لصاحبكم ليخرج إلي فلي إليه شغل مهم وأمر ملم‮.‬

فقالوا‮: ‬تنح أيها الضعيف،‮ ‬من أنت حتي تأمر صاحبنا بالخروج إليك فقال‮:‬‭ ‬أنتم عرّفوه ما ذكرت،‮ ‬فلما عرّفوه من الطرقة الأولي نهضوا من أماكنهم بالعصي والسلاح،‮ ‬وقصدوه ليحاربوا فصاح بهم صيحة وقال‮: ‬الزموا أماكنكم فأنا ملك الموت فارتعدت فرائضهم وبطلت عن الحركة جوارحهم ورعبت قلوبهم وطاشت عقولهم فقال الملك‮: ‬قولوا له ليأخذ بدلاً‮ ‬مني وعوضاً‮ ‬عني‮.. ‬فقال‮: ‬ما آخذ إلا أنت ولا أتيت إلا لأجلك،‮ ‬لأفرق بينك وبين هذه النعم التي خولتها‮.‬

فقال‮: ‬لعن الله هذا المال الذي‮ ‬غرني وأضرني ومنعني عن عبادة ربي،‮ ‬وكنت أظن أنه ينفعني،‮ ‬فاليوم صار حسرتي وبلائي وخرجت صفر اليدين منه وبقي لأعدائي‮.‬

فأنطق الله المال حتي قال‮: ‬لأي شيء تلعنني العن نفسك فإن الله تعالي خلقني وإياك من تراب وجعلني في يدك لتتزود بي إلي آخرتك،‮ ‬وتتصدّق بي علي الفقراء،‮ ‬وتتزكي بي علي الضعفاء،‮ ‬ولتعمر بي الربط والمساجد والجسور والقناطر،‮ ‬لأكون لك عوناً‮ ‬في اليوم الآخر،‮ ‬وأنت جمعتني وخزنتني،‮ ‬وفي هواك أنفقتني،‮ ‬ولم تشكر حقي بل كفرتني،‮ ‬فالآن تركتني لأعدائك،‮ ‬وأنت بحسرتك وضرائك‮.. ‬فأي ذنب لي حتي تلعني‮.‬

[email protected]