رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عصف فكرى

بعد سنوات قليلة من ميلاد الألفية الثالثة، زرت دمشق، مدينة المشمش، والزيتون، والثقافة والفنون الجميلة.

وما دمت فيها، فقد انتهزت الفرصة وقررت زيارة أحد أحبائى المقربين وهو الشاعر العظيم نزار قبانى الذى كُنت مُتيمًا به، وكان قد رحل عن دنيانا منذ سنوات، لذا فقد سألت بعفوية (ولم تكن فكرة سؤال جوجل قد لاحت وقتها) سائق التاكسى عن مكان قبر الشاعر حتى أزوره.

وفاجأتنى إجابة الرجل الذى بدا إنسانًا عاديًا فى ملامحه ومظهره كرجل عربى غير مُنتم، ولا مبالٍ بشىء حين رد السؤال بسؤال آخر إن كان والدى حيًا، فأجبته بنعم. ثم سألنى إن كان جدى حيًا، فهززت رأسى نافيًا، فقال مرشدًا «زره أفضل واقرأ له الفاتحة».

استفزنى الموقف فواصلت تساؤلاتى الاستشكافية عما يمنعنى من زيارة قبر نزار قباني، وهو شاعر جميل، وفخر لسوريا، وما ينهانى عن قراءة الفاتحة له، وقد استمتعت بشعره، واستعذبت عباراته، وتأثرت بكلماته. فقال لى السائق الناصح: «إنه رجل يمدح النساء، ويحرض على الغزل، ويُلهى المسلمين عن دينهم».

وعبثًا حاولت اقناع محدثى بأن الشعر خيال وجمال، وأن المعانى وصياغة التشبيهات تجعل محاكمة الجمال نوعًا من التربص سيئ النية بالآخرين، ولونًا من الاصطياد الأدبى غير السليم، وأنه لا مانع من الترحم على كل إنسان نعتقد أنه ترك عملًا جميلًا وطيبًا. لكن الرجل كان منغلقًا كخزانة عتيقة، صدأ مفتاحها، فهز رأسه متحسرًا على أمثالى المنخدعين بالإبداع والشعر، وربما دعا لى فى سره بالهداية.

<<<

شببت فى الثمانينات مع تمدد ظاهرة اعتزال الفنانين والفنانات لفن التمثيل تحت باب حرمته. اعتبر البعض كلمات الحب والمشاهد الرومانسية والاختلاط خروجًا عن الدين.

بدأت الظاهرة إعلاميًا، واتسعت رويدًا، وارتبطت بانتشار الحجاب كرمز دينى فى مختلف قطاعات المجتمع المصرى.

كُنا نفاجأ بتوقف فنانات شهيرات، واعتزالهن فجأة، ثُم تتسرب تصريحات ومقولات لهن عن التوبة والهداية لا تلبث أن تتحول إلى تلسين على الوسط الفنى برمته، واعتباره بوتقة انحلال وتسيبًا أخلاقيًا.

وقتها اهتزت نفوس كثير من أهل الفن وتولدت لدى المجتمع حالة من الازدواجية الغريبة اختصرت الدين والأخلاق فى غطاء الرأس، واعتبرت كل حاسرة لشعرها غير مكتملة الأخلاق.

ولم يقتصر الأمر على الفنانات، فإن بعض الفنانين قرروا الاعتزال، وهناك آخرون استفتوا مشايخ كبارًا ليحددوا ما يباح تمثيله وما لا يباح، رغم أن الأمر أيسر كثيرًا من ذلك. وكانت من الحكايات الشهيرة أن الفنان الراحل أحمد زكى اندفع يومًا حائرًا ليزور الشيخ الشعراوى وسأله السؤال المُكرر «الفن حلال أم حرام؟»، وتلقى الإجابة الوسطية المنطقية من الرجل الذكى وهى «حلاله حلال، وحرامه حرام».

لكن الصورة الذهنية ترسخت لدى القطاعات الأدنى من الناس بسبب إفيهات الشيخ عبدالحميد كشك الساخرة، التى حرمت كل شىء، ولعنت كل شىء.

ففى موجة شرائط الكاسيت الدينية التى غزت مصر خلال السبعينات والثمانينات استمع الناس للشيخ كشك، الذى تمتع ببلاغة لفظية، مع ضعف علم، واعتماد على الثقافة السمعية النقلية، وهو يصف الفنانة نيللى بلقب «نيلا» كنوع من الازدراء المتعمد. ثم تحدث عن كوكب الشرق أم كلثوم بتشفِ غير أخلاقى معايرًا إياها بكبر السن، وداعيًا عليها. وسمعوه أيضًا وهو يقول عباراته الساخرة بأن النبى محمد «ص» كانت له معجزة واحدة هى القرآن، وأن عبدالحليم حافظ أوتى معجزتين وهما: أنه يمسك الهواء بيديه، ويتنفس تحت الماء، وهى إشارة إلى عبارات وردت فى بعض أغانيه.

<<<

فى شبابى شهدت ظاهرة الزواج الإسلامى الموازى لما عُرف بـ«الصحوة»، وكانت أهم مظاهره استخدام الدفوف فى الغناء.

سألت أكثر من سائل من المتدينين وقتها، فاتفقوا أن الموسيقى كموسيقى حرام شرعًا. بحثت عن السبب فاستدلوا بآية قرآنية تقول «ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ». (سورة لقمان آية 6).

وحاولت مناقشة المستدلين بأن الآية واضحة فى الإشارة إلى أن استخدام أى حديث لإضلال الناس هو المقصود، وهنا فإن الإضلال هو المحرم وليس لهو الحديث، لكن العقول التى تزايد على الناس تشددًا للظهور بصفة الأوصياء والحماة للدين اعتبروا الموسيقى فى حد ذاتها حرامًا.

وما الحل؟ رأوا تقسيم الآلات إلى آلات محرمة وأخرى مباحة، فاعتبروا إيقاع الدف وحده مباحًا، لأنه مجرد ضرب على جلد ما لإصدار صوت، بينما البيانو حرام لأنه يصدر صوتًا ساحرًا وجميلًا. ولم يكن التقسيم مُقنعًا، فكل آلة تصدر صوتًا لا يمكن تفرقتها عن الأخرى، لأنه ليس هناك صوت شيطانى وآخر ملائكي، فكلها تصورات البشر لإيقاعات الأصوات.

وخلف القطيع سار كثير من العامة يصدقون أن الموسيقى حرام، وأن الدُف وحده هو الحلال، ثُم انقسموا بشأن الغناء فرأوا أن كل غناء للفرح مكروه، وكل أنشودة لحث النفس على الجهاد مندوبة، وأصبحت الحياة لدى المسلم المعاصر حزنًا وهمًا، وصدّق كثيرون المقولة الشائعة بأن «الدنيا سجن كل مؤمن».

وربما صاحب ذلك انحدار فنى لافت فى الموسيقى والغناء، وصل بنا إلى المهرجانات والأصوات الخالية من أى جمال.

<<<

ما جرى فى التمثيل والغناء، تمدد وغزا كل إبداع. أصبح الشعراء مرجومين بالنفاق والتفحش والمبالغات المحرمة. وصار الروائيون موصومون بالحكى الكاذب وإلهاء الناس، وتمت محاكمة بعضهم باعتبارهم أنفسهم هم شخوص رواياتهم، فحكم بالإلحاد والكفر على مَن يقدم شخصيات ملحدة أو كافرة فى أعماله.

ولم يسلم الفن التشكيلى من سيف الإرهاب، فاعتبر التيار الدينى الكاريكاتير سخرية مرذولة، والنحت صناعة للأصنام، وحتى الرسم نفسه أصبح تجسيدًا لخلق الله. فى غضون سنوات قليلة صارت النظرة الإسلامية، ومن ثم النظرة العامة تجاه الفن نظرة مزدرية، متربصة، ومُشككة، ومُعتبرة كل فن مجونًا، وكل إبداع إلهاء عن ذكر الله. وكان التيار الدينى وما زال هو المسئول، وكانت هذه واحدة من جرائمه فى حق الإنسان العربى المعاصر. والله أعلم.