رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

مجاذيب «أهل البيت».. مدد.. مدد

بوابة الوفد الإلكترونية

بين أركان المساجد الكبرى وساحتها الواسعة تستوقفك مشاهد رجال فى هيئات غريبة.. شعر أشعث طويل، ولحية لم يقربها «الحلاق» منذ سنوات، وثياب رثة، وبشرة أكلتها الشمس، وعيون شاردة، وعقول يبدو من الكلام أنها ذهبت فى رحلة بعيدة ولن تعود.

يطلقون عليهم «المجاذيب».. فهذا «مجذوب السيدة»، وذلك «مجذوب الحسين»، بعضهم لا يصلى فليس لديه وقت فهو وسيط.. ينتظر هطول الرزق إلى الأرض، ويدفع الأذى عن الناس.. ولا يصوم.. يسب المارة إذا ما وقفوا أمامه.

 

مجذوب السيدة زينب

فى مسجد السيدة زينب توقفت أرقب الساحة لعلى أجد ما أبحث عنه، فجميع النائمين أمام المسجد ليسوا مجاذيب، فبعضهم أصحاب سوابق، وربما أنخدع فى حالهم، وبعد أن ترددت كثيراً قررت دخول المسجد للصلاة.

دخلت المسجد وأديت ركعتين تحية المسجد، وبعد أن أنهيت صلاتى وجدته حضر.. دخل وهو يتشاجر مع خادم المسجد.. فلا يستطيع أحد منعه من الدخول.. وصرخ فى وجه الخادم «إيه هتمنعنى أدخل بيت ربنا.. والله أحبسك!».

حينها تركه الخادم وعلامات الضيق ترتسم على وجهه، وتلفظ بكلمات لم أسمعها جيداً، بعد أن دخل المجذوب ظل ينظر إلى رواد المسجد ويحدق بهم.. واختار ركناً ليجلس فيه، وقتها قررت الذهاب إليه لأجلس بجواره.. رجل فى الخمسينيات من العمر يبدو عليه الصلاح والتقوى.. يرتدى جلباباً أزرق، ظل يتمتم بكلمات لم أفهمها.. وقتها ترددت آلاف المرات قبل أن أحدثه.. فخشيت أن يتشاجر معى، حاولت أن ألفت انتباهه وظللت أنظر إليه محدقاً ولكنه لم يُعرنِى أى انتباه، فقررت وقتها أن أخلد للنوم قليلاً، وقبل أن أذهب فى النوم كانت المفاجأة.. وجدت من يقبض على قدمى، وفتحت عينى ولم أصدقها.. إنه السيد «مجذوب».

المجذوب: إنت جاى الجامع علشان تنام؟

أنا: معلش أصلى تعبان شوية سامحنى.

المجذوب: أسامحك؟

وفجأة اهتز المجذوب وردد: «سامحينى يا ستنا يا بنت بنت المصطفى»، وعاد ليتحدث مرة أخرى معى.

المجذوب: قوم صلى علشان ربنا يكرمك ويرضى عليك.

توضأت ورجعت له مرة أخرى ولكنى لم أجده فى مكانه فبحثت عنه داخل المسجد حتى أخبرنى أحد الأشخاص بأنه غادر المسجد.. خرجت مسرعاً للحاق به فوجدته جالساً على رصيف يسند ظهره على عمود النور.. فجلست بجانبه.

أنا: إزيك يا حاج.. إنت سبتنى ومشيت ليه؟

المجذوب: «خد بالك من الحرامية.. الحرامية هيسرقوك.. ابعد بعيد عنهم».

أنا: مين قالك إنهم هيسرقوني؟

المجذوب: هما سرقونى وأخدوا كل حاجة منى.

وفجأة أخرج زجاجة مياه من جوال يمسك به وشرب منها كثيراً.

أنا: إيه ده.. إنت مش بتصوم؟

بدأ المجذوب فى وصلة من الذكر على أغانى المدح قائلاً: مدد يا ست مدد. أنا جيت ولبيت الندا، بحب آل البيت وعايش على حبهم، طواف على بيوتهم طمعان فى حبهم.

ثم نظر لى وقال: ابعد عنى إنت ممسوس، الشيطان مسك، روح دور على سيدك أبوأسدين فى الحسين.

أنا: ومين سيدى أبوأسدين.. وألاقيه فين؟

وقتها نهرنى المجذوب: امشى خلاص، روح امشى يا ولد.. دور على سيدك.

 

مجذوب الحسين

حينما تبحث عن مجذوب يخبرك البعض بأن القرى تحوى الكثير منهم، ولا يفلتون من عقاب الأطفال فى الشوارع من الجرى وراءهم وقذفهم بالطوب والحجارة وكأنهم يرجمون الشيطان بالسبع جمرات.

توجهت إلى مسجد الحسين ووجدت كثيراً من «المجاذيب» يجلسون خارج المسجد.. منهم من يستعطف المارة، ومنهم من جلس تحت قرص الشمس، وكأنه يعيش فى القطب الشمالى لا يؤثر فيه لهيبها.

حاولت أن أعطى بعضهم النقود لأتأكد من أنهم مجاذيب.. فالمجذوب لا يقبل الأموال.. فهى عنده دون قيمة.. لكن هؤلاء لم يتوقفوا عن طلب المزيد، دخلت ساحة المسجد أبحث عن مجذوب فى الداخل ووجدته على الأرض مستلقى فى نوم عميق.. فسألت أحد الأشخاص الذى يبدو عليه أنه دائم التردد على المسجد، ودار الحوار التالى:

أنا: يا حاج الراجل ده ماله متبهدل كده ليه؟

- أجابنى: ده راجل على باب

الله.

جلست بجانبه لعله يستيقظ ولكنه ظل نائماً فأخرجت من جيبى النقود لأضعها له فى جيبه، وعندما حاولت وضعها فى خفة حتى لا أوقظه إذا به يمسك بيدى ودار الحوار التالى:

المجذوب: إنت عاوز منى إيه؟

أنا: متخفش يا عم الشيخ أنا بأساعدك.

ابتسم المجذوب قليلاً وأمرنى بالجلوس، وقال: كلنا محتاجين المساعدة بس المشوار طويل، ثم أنشد يقول أشعاراً وبعضاً من الأوراد التى يحفظها، لم تسعفنى الذاكرة لأكتبها، ثم أخذ يدعو لى دعوات هزتنى كثيراً وشعرت وقتها أن أبواب السماء قررت أن تفتح كل مغاليقها لأدخل الجنة.

بعدها انصرف المجذوب ودخل إلى ضريح الحسين فتابعته، وظل يطوف حول الضريح قائلاً: «كراماتك يا سيدنا.. كراماتك يا سيدى الحسين.. مدد يا حسين، وظل يمسح بثيابه المتسخة الضريح.

بعدها خرج المجذوب من الضريح وأنا أتبعه حتى جلس مرة أخرى ونظر إلىّ محدقاً ليقول: هو انت ليه جيت لبيت نداء سيدك الحسين؟

أنا: جيت علشان النداء وبعتنى علشان أشوفك.

المجذوب: إنت فاكرنى مجنون.. أنا من الأولياء الصالحين.

ثم عاد قائلاً: شفت أنا كويس أهو.. وردد المجذوب كلمات بحثت عنها لأعرف هل هى فصاحة لسان أم أقوال لحكماء فوجدتها كلمات للإمام على بن أبى طالب تقول: «يا عجبا كل العجب بين جمادى ورجب من جمع شتات وحصد نبات ومن أصوات بعد أصوات».

سألته: من أين جئت وما حكايتك؟

فنظر إلىّ محدقاً ولم يتحدث وراح يفترش الأرض لينام وانتظرته حتى عاد وأفاق مرة أخرى.

سألت أحد رواد المسجد: من أين جاء هذا الرجل؟ وما حكايته؟ وكيف وصل به الحال إلى هذا الوضع؟

وتعجبت من الإجابة التى جاءتنى على لسان أحد الرواد: «إسماعيل ده راجل غلبان بينام جنب الجامع والناس ترسل له طعاماً كل يوم، ومنعرفش بلد له، لكن فى بعض الأحيان نجده يبكى.. ويقول: أنا عملت اللى أقدر عليه، ويظل يتحدث بصوت خافت عن معاناته وتوسلاً من أهل البيت لمساعدته.

انصرف إسماعيل المجذوب من المسجد وتتبعته فى خطوات بطيئة خشية أن يتشاجر معى.. وقتها لا أدرى كيف سأتصرف واقترب المجذوب من أحد محال بيع المشروبات وفاجأنى بنظرته إلىّ.. فاكتشفت أنه يعلم جيداً أننى أتبعه، وأشار إلى إحدى زجاجات المياه الغازية ونظر إلىّ وابتسم كأنه يقول إنه عطشان.

بعد أن شرب الماء نظر إلىّ.. وقال: كله بالحب والقانون، وانصرف بعدها عنى وكأنه لا يعرفنى.

استوقفته لأتحدث معه فقال بحدة: إنت عاوز منى إيه أنا معرفش وظل يصرخ فى الشارع.

وهكذا يظل المجاذيب فى رحلاتهم البعيدة.. بلا عودة قريبة.